تقرير: تركيا تدفع ثمن الحرب في سوريا

تعرض صحيفة "القدس العربي" تقريراً لمنظمة "الأزمات الدولية" في بروكسل، يتناول تداعيات الأزمة السورية على الجار التركي، خاصة على الصعد الاقتصادية والأمنية والاجتماعية. فقد كلّفت الأزمة السورية تركيا حتى الآن 75 قتيلاً، و3 مليارات دولار، وضغط كبير للاجئين السوريين الذين يُعتقد أنهم باتوا 720 ألفاً، مع ما يسببه هؤلاء من منافسة في فرص العمل والمعيشة مع نظرائهم الأتراك، الذين بدؤوا، حسب التقرير، يضيقون بهم.

نص التقرير:
فرضت الأحداث والحرب الأهلية في سوريا على الجارة تركيا الكثير من الواجبات الأخلاقية والإنسانية، فبعيدا عن المواقف السياسية التي تبنتها الحكومة التركية والداعية لخروج الرئيس السوري بشار الأسد من معادلة السلطة، وجدت أنقرة نفسها أمام وضع تؤثر فيه الحرب على تركيا يوميا، حيث لم يتوقف تدفق اللاجئين السوريين للأراضي التركية منذ أن فتحت حكومة طيب رجب أردوغان أبوابها للسوريين وفتحت لهم أول مخيم في بدايات الإنتفاضة السورية عام 2011.
وبعد 720.000 لاجيء سوري و 75 قتيلا تركيا و3 مليارات دولار أنفقتها تجد تركيا نفسها أمام وضع أصبحت فيه مجهدة ولا تستطيع تحمل المسؤولية بنفسها. ويرى تقرير لمنظمة الأزمات الدولية في بروكسل أن الدور التركي وإن فرضه الواجب الأخلاقي ويتساوق مع المبادئ الدولية إلا أنه يظل في حقيقته ردا إنسانيا على أزمة تسببت فيها الحروب وعليه فتركيا بحاجة إلى تطوير آلية عمل مع المجتمع الدولي مستمرة وقادرة على الإستجابة للوضع اليومي الذي يتدفق فيه الآلاف من السوريين، فهذه الأخيرة لم تصنع الأزمة السورية ولكنها أصبحت طرفا فيها ومتأثرة بطريقة أو بأخرى بتداعياتها، وقد ذكرت أنقرة بالمخاطر القادمة من سوريا ليس من خلال اللاجئين ولكن الهجمات الإنتحارية التي نفذت داخل الأراضي التركية، وكون شمال سوريا تحول إلى منطقة تعيش فيها الفوضى والإقتتال في وقت يواصل فيه النظام هجماته الجوية ورميه للبراميل المتفجرة.

تغير في المسار
ويرى التقرير أن الحكومة التركية التي دعمت المقاتلين والمعارضة للنظام وهي سنية في طابعها لكنها لم تكن قادرة على إحداث تغيير في موازين القوى وهي بهذه المثابة مطالبة الآن بتغيير سياستها والتزام سياسة خارجية ذات بعد محايد طائفياً، ودعم حل سياسي يقتضي من كل الأطراف تقديم تنازلات.
وفي الوقت الذي يجب فيه توفير المأوى والأمن للاجئين السوريين وهو ما تقتضيه الأعراف الدولية وما يطلب من تركيا التأكد منه، إلا أنها ليست مطالبة بتحمل عبء مساعدتهم لوحدها.
فقد قبلت تركيا استقبال السوريين ومساعدتهم نيابة عن المجتمع الدولي، لكن زيادة كلفة إدارة المخيمات وتوفير المستلزمات الأساسية فيها يعني أن القادمين الجدد لا يجدون مكانا فيها وينتهون خارجها، ويقدر عدد السوريين الذين يعيشون خارج المخيمات بحوالي 500.000 نسمة ولكن الرقم قد يكون ضعف هذا، مما يعني وضع أعباء على البنى التحتية للخدمات المحلية ويؤدي إلى زيادة في التوتر الإجتماعي بين اللاجئين والأتراك، فمع تراجع المصادر، وتزايد المشاكل والأحداث الأمنية فقد تجد تركيا أن سياسة الأبواب المفتوحة التي انتهجتها منذ الأزمة السورية لها حدودها، وحتى في ظل انتهاج سياسة متشددة على الحدود ومحاولة تقليل عدد العابرين من سوريا إلى تركيا، فالهاربون من الحرب يتدفقون بشكل دائم. وبناء على هذا الوضع فتركيا بحاجة لسياسة استيعاب شاملة للاجئين تعطيهم فرصة للإندماج في سوق العمل التركي من خلال توفير التعليم وفرص عمل لهم ومنحهم الرعاية الإجتماعية وتدريبهم وتطوير مهاراتهم اللغوية.
وهذا يقتضي من الحكومة التركية إطارا قانونيا أوسع من الإطار المعمول به حاليا وهو قانون الأجانب والمهاجرين. ويمكن للدول المانحة تقديم مساعدات لوجستية وخبرات ودعم لمشاريع مشتركة لبناء إسكانات للسوريين في داخل تركيا.

دعم للمشردين في الداخل
ويعتقد الباحثون أن الطريقة للحد من استمرار تدفق اللاجئين السوريين يتم عبر تقديم الدعم الإنساني للعالقين في مناطق الحرب في سوريا. فمنذ عام 2012 تحولت تركيا لشريان حياة لسكان شمال سوريا، حيث يتدفق معظم الدعم الدولي الإنساني عبر خط الإغاثة الآمن ويؤمن حياة حوالي 100.000 نسمة يعيشون هناك. ولكن الخطط لمواجهة الإحتياجات لسكان المخيمات المؤقتة في شمال سوريا يغفل عن المخاطر التي يتعرض لها السكان والعاملون في مجال الإغاثة الإنسانية حيث تزداد المخاطر يوميا.
وكما ناقشت منظمة الأزمات الدولية في تقرير سابق لها عام 2013 فأحسن طريقة لحماية اللاجئين تكون عبر مساعدة المدنيين خيارا الخروج إن أرادوا ترك بلدهم الذي مزقته الحرب.
ويرى التقرير الحالي أن تركيا وإن كانت أقوى إقتصاد بين جيران سوريا لكنها تظل بحاجة لمساعدة دولية حتى تستمر في استقبال اللاجئين من سوريا، ولهذا سمحت حكومتها قبل عام ونصف بالسماح للمنظمات الانسانية الدولية غير الحكومية بالعمل في تركيا وسجلت عددا كبيرا منها.
لكن المخاوف من المنظمات هذه والبيروقراطية لا تزال تمنع تركيا من الإستفادة وبشكل كبير من عمل هذه المنظمات، وبسبب هذا لم تقدم الأطراف الخارجية الكثير لمواجهة الأزمة، وترى المنظمة أن على الدول المانحة عدم التخفي وراء رفض أنقرة الدعم الخارجي وحقيقة أن تركيا تعاملت مع أزمة اللاجئين السوريين بطريقة فعالة أكثر من لبنان والأردن.
صحيح أن تركيا كانت ناجحة في احتواء آثار سوريا وأبعدت شبح الطائفية عن بلادها مقارنة بما حدث من آثار سوريا على العراق ولبنان لكن سياسة الحكومة التركية حسب التقرير الحالي لم تحظ بشعبية واسعة خاصة في أوساط العلويين والأكراد في تركيا.

ضد الجهاديين
ويلحظ التقرير أن الحكومة في أنقرة وبعد شعورها بخيانة الدول الغربية خاصة أمريكا التي لم ترد التدخل العسكري في سوريا قامت بإعادة النظر في سياستها السورية.
وأصبحت تؤكد على مخاطر الجماعات الجهادية الناشطة في سوريا إلى جانب النظام وعملائه، وراجعت موقفها الرافض التعامل مع حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا المرتبط بحزب العمال الكردستاني ـ بي كي كي- وقامت بالتعاون مع الأمم المتحدة في آذار/مارس الماضي بقيادة حملة للمساعدات الإنسانية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد بعد فتح المقاتلين معبرا بين تركيا وشمال شرق سوريا.
وبحسب التقرير فتركيا وضمن المنظور العام تحاول تجنب مواجهة وتصعيد مع النظام السوري إلا أن المواجهات المتفرقة والقصف المدفعي السوري الذي يطال مناطق تركية والعمليات الإنتحارية تزيد من مخاطر التصعيد، مع أن التدخل العسكري التركي الشامل يظل بعيدا بدون دعم وتدخل دولي.
كل هذا لا يعني تراجع تركيا عن موقفها المطالب برحيل النظام السوري وعلى رأسه الأسد أو تراجع دعمها للمعارضة السورية حيث تستقبل المقاتلين وعائلاتهم في المخيمات وتسمح للمعارضة السياسية بالعمل واللقاء، ولكن تركيا ليست الداعم الوحيد للمعارضة حيث زاد تأثير دول الخليج وتراجع التأثير التركي.
وقد لعبت تركيا ومن خلال علاقتها مع الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة على تعزيز الدعم لجنيف-2 وأكدت حضورا كرديا فيه، ويجب على أنقرة أن تستخدم نفوذها كنقطة عبور للدعم الدولي والمساعدات للمقاتلين كي تشجع هؤلاء على الإلتزام بالمعايير الدولية والتخلي عن السياسات الطائفية. ويدعو التقرير تركيا استخدام علاقاتها مع القوى الإقليمية خاصة إيران للعمل على تخفيف حدة التدخل الخارجي في سوريا وتهيئة الأجواء لتحقيق السلام ونهايهة الحرب.
ويرى التقرير في توصياته أن على تركيا العمل مع المجتمع الدولي في برامج إسكان تسهم فيها الدول المانحة في مساعدة اللاجئين بدفع أجور البيوت ومن خلال منحهم كوبونات.
ويدعو تركيا الى منح السوريين وثائق هوية وأذون عمل وشهادة ممارسة لمهنهم. كما ودعا الحكومة استيعاب القدر الأكبر من الأطفال السوريين في المدارس التركية وفتح الباب أمام الدول المانحة لبناء مدارس جديدة، وتقديم دورات مكثفة لتعليم اللاجئين اللغة التركية.
ويدعو التقرير في العموم تركيا على تنسيق جهودها والتعاون مع الدول الأوروبية والمجتمع الدولي لتوفير مساكن وفرص عمل وتعليم للسوريين.
وتنبع أهمية تقرير منظمة الأزمات الدولية من كونه يركز على مشكلة السوريين الذين يعيشون خارج المخميات والذين يشكلون نسبة ثلثي أو أربعة أخماس السوريين يعيشون خارج المخيمات، وأشار أن معظم هؤلاء لا يريدون ‘الحبس في الأقفاص’ ولأنهم يريدون العمل ولديهم عائلات في داخل سوريا.
وينقل التقرير عن عمال الإغاثة قوله إن بعض المحاولات تم لنقل من يعيشون في الشوارع لمخيم شباب خارج اسطنبول ولكن التجربة نجحت بشكل جزئي.

أكثر من حلب في تركيا
ويتوزع معظم السوريين في جنوب- شرق تركيا في غازي عنتاب وهاتاي وكلس وغيرها وفي الآونة الأخيرة بدأوا بالإنتشار في غرب تركيا. ولاحظ التقرير أن تركيا بدأت قبل فترة بتنسيق جهود تسجيل السوريين على المستوى الوطني وأخذت بصمات أصابعهم.
ويرى التقرير إنه ورغم الخدمات التي تقدمها تركيا إلا أن المطالب الشديدة للخدمات تتزايد بسبب استمرار تدفق اللاجئين مشيرا إلى ما تواجهه المنظمات ضغوطا شديدة، فمع تدهور الأوضاع واستخدام النظام للبراميل المتفجرة، شهدت المدن الحدودية في جنوب تركيا تدفقا كبيرا من السوريين، ويعني هذا مطالب على السكن، حيث تنقل عن أحد سكان غازي عنتاب قوله إن أجر البيت الذي يسكنه ارتفع بشكل كبير، فيما لم يعد هناك شقق للإيجار ولا حتى غرف أرضية.
ويقول معدو التقرير إن تركيا لم تقدر جيدا حجم الأزمة السورية ولا مدة بقاء اللاجئين الذي أصبحت مناطقهم التي يعيشون فيها يطلق عليها اسم ‘أحياء حلب’ أو ‘شارع سوريا’، وفي الوقت الذي لم تعد فيه المخيمات تستوعب القادمين الجدد فإن بناء مخيمات أخرى لن يوفر إلا حلولا قصيرة الأمد وسيزيد من تكاليف الإنفاق على السوريين.
وأدى وجود السوريين في تركيا لأكثر من 3 أعوام إلى ظهور طبقة جديدة من العمال، حيث يقول هؤلاء إن أكبر مشكلة تواجههم هي الحصول على العمل وتوفير المال، ويلجأ الكثيرون منهم للعمل بطريقة غير شرعية وهو ما يعرضهم للإستغلال من أرباب العمل الأتراك، واشتكى ناشط سوري أن أبناء بلده يعملون 14 ساعة في المطاعم ومصانع النسيج والأحذية، فيما قال لاجئ سوري يعمل بطريقة غير شرعية في مصنع للأحذية في غازي عنتاب كانوا يخفونه عن الأنظار عند حضور موظفي التأمين.
ولا يعني عدم وجود أصحاب أعمال من السوريين، ففي المناطق التي يعيشون فيها تظهر اليافطات المكتوبة بالعربية أكثر من التركية من مطاعم ومقاهي ومحلات للهواتف وغيرها، ومعظم هذه مملوكة إسميا من أتراك لكن الذين يديرونها هم السوريون.
ويطالب أرباب العمل ورجال الأعمال الحكومة بتنظيم سوق العمل ومنح السوريين أوراق عمل وإن كانت بشكل مؤقت. ويطالبون بخطوة أخرى وهي إنشاء وكالات حكومية متخصصة بمساعدة السوريين للعثور على عمل.
ويقدم التقرير صورة عن الجهود التركية في إيصال المعونات إلى داخل سوريا واستطاعت الحكومة التركية تقديم مساعدات للمخيمات داخل سوريا وتشرف منظمة الهلال الأحمر التركي ومنظمات غير حكومية أخرى بقيمة 240 مليون دولار استرليني. وقدمت هذه مجموعة خيام وموادا غذائية وأدوية كما تقوم المنظمات التركية بنقل التبرعات إلى المنطقة العازلة بين البلدين ولكن الهلال الأحمر التركي لا يقوم بمراقبة كيفية توزيعها داخل سوريا، وتأمل الحكومة التركية أنها بمساعدة المشردين داخليا في بلادهم فإنها تعمل على تقليل الإعداد القادمة إلى تركيا.
ولأن معظم المخيمات داخل سوريا لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن تركيا وبعيدة عن المناطق التي يحاصرها النظام فقد أصبحت وضمن قواعد الإشتباك الجديدةـ خاصة بعد قيام المقاتلات التركية باعتراض طائرات سورية كانت تقترب من الحدود ، ومع ذلك فمن الصعب الحفاظ على الأمن فيها وتفجير باب السلامة في 20 شباط/فبراير 2014 تذكير بالمخاطر التي تواجه من بقوا داخل سوريا. كل التحديات والدروس التي تعلمتها تركيا خلال الأعوام الماضية سواء على الصعيد الإنساني والسياسي أدت إلى تغيير في المواقف من قبول الدعم الخارجي، مع أنها الأن تحاول تقديم طريقة جديدة لتقبل المساعدات ودور للمنظمات الدولية غير الحكومية. ويلاحظ التقرير أن الضيافة على الصعيد الشعبي تحولت إلى نوع من العدوانية بزيادة الكثير من الهجمات والمواجهات بسبب منافسة السوريين الأتراك على قطاع العمل.
فقط اختفى الحديث عن ‘إخواننا وأخواتنا’ السوريين وحل محله عدم ارتياح من تزايد هؤلاء في الشوارع التركية.
كما وزاد اللاجئون الضغوط على قطاعات الصحة والتعليم وما إلى ذلك. وأمام المصاعب التي تواجهها الحكومة التركية فإن محاولات تصحيح المسار تصطدم بعقبات، فقد قطعت كل خطوط الإتصال مع الحكومة السورية ومن هنا فهي تحاول التأثير على قطاع حلفاء النظام إيران وروسيا.
ويستنتج التقرير أن تركيا تظل مهيأة لأن تستوعب مليون وأكثر من اللاجئين السوريين، ولكنها ليست بعيدة عن التهديدات الأمنية سواء نبعت من النظام أو القاعدة، وهذا يفسر إعادتها النظر في سياستها تجاه الحرب والموقف من الجهاديين.

ترك تعليق

التعليق