البوظة الدمشقية تنقل طعم وجع دمشق إلى العاصمة الألمانية..وبالفستق الحلبي

نقل السوريون، عدا قضيتهم وهمومهم، نقلوا أنماطهم الغذائية، فعندما يقصد المرء شارع "زونين أليه" في حيّ "نويكولن" في العاصمة الألمانية، يفاجأ بالحضور الطاغي للعرب ولغتهم وطقوسهم وعادتهم وتقاليدهم.
يخال القادم الجديد إلى برلين نفسه، للوهلة الأولى، أنه في أحد شوارع دمشق العتيقة، أو في زقاق من أزقة القاهرة القديمة؛ الأرض بتتكلم عربي هنا! منذ أربعة أشهر، فرضت البوظة الدمشقية -حسب وصفة "بوظة بكداش" الشامية الشهيرة- نفسها على المشهد هنا.

تراث عمره ما يقارب 120 عاما

استقى "أبو جواد" اسم محله من المسلسل السوري الشهير "باب الحارة". ذلك المسلسل الذي شغل الملايين في البلاد العربية وفي المهجر أيضاً، ويتم الآن العمل على إنتاج الجزء السادس منه. يفتخر "أبو جواد"، السوري المنحدر من الغوطة الشرقية المحيطة بالعاصمة السورية، بما حققه من نجاح منذ افتتاح محله. ويعزو النجاح إلى أنه "ورث المصلحة أباً عن جد"؛ فعائلته تمتلك محلا للبوظة الشامية في "شارع بغداد" في دمشق منذ أربعين عاماً.
لا يستخدم أبو جواد أي مواد صناعية في تحضير البوظة، حتّى الحليب يجلبه يومياً طازجاً من المزرعة. "لا يدخل الحليب المبستر في تحضير البوظة"، يؤكد أبو جواد.
بالإضافة للحليب يشكل السحلب والمستكة أهم مكونات البوظة الدمشقية. وعن طريقة التحضير يضيف أبو جواد: "يتم غلي المكونات السابقة على حرارة 120 حتى يتبخر كل الماء الموجود به. ثم يُسكب المزيج في مكنة البوظة، التي يجب أن تكون درجة حرارتها 45 درجة تحت الصفر.
بعد ذلك تأتي مرحلة الدق: كلما دُقت البوظة أكثر، ظهر المذاق المتميز للمستكة والسحلب". أخيراً، يُغمس البوظة بملك المكسرات، الفستق الحلبي قبل تقديمها للزبون.
أما عن الآلية المستخدمة قبل دخول الكهرباء وماكينات البوظة الُمجمدة إلى دمشق، فيجيب أبو جواد: "كان يتم جلب الثلج من الجبل ووضعه في حفرة من الباطون. ثم يوضع فوقها حلة من النحاس. وعند تدوير الحلة، يأخذ المزيج بالتطاير على الأطراف الداخلية للحلة، فيتجمد هناك. ثم يتم جمعه تمهيداً لمرحلة الدق".

سحر الشرق وأكثر من ذلك

لا يخفي بيتر وصديقته آنا ماريا إعجابهما بالمذاق المميز للبوظة مع المكسرات. ليس ذلك فحسب، بل سحرهم الجو العائلي واستمتعا بالموسيقى الشرقية التي تتراقص أنغامها حولهما. لا يبدو الأمر بعيدا عن نسخة عصرية عن "ألف ليلة وليلة". لا يعكر صفو الزيارة إلا الأخبار الصادمة المفجعة عن الحرب الدائرة في سوريا. يتتبع الثنائي الألماني- ولو بشكل غير منتظم ومتقطع- ما يجري هناك. يلاحظان ضعف، وأحيانا، غياب التغطية الإعلامية للوضع السوري. يحزّ في نفسيهما مصير الضحايا الأبرياء. ويتمنيان عودة الهدوء والسلام لتتاح لهما فرصة زيارة دمشق.
باسل ورائد، أردنيّان من أصل فلسطيني، تعود بهم البوظة إلى "الشام" وزيارتهما لها. لقد استبد بهما الشوق والحنين، فقادتهما أقدامهم لا إرادياً إلى هنا. ولكنهما يعودان للتأكيد أن دمشق "ليست بوظة بكداش وعصير أبو شاكر وفول بوز الجدي فقط، بل هي أكثر من ذلك بكثير؛ إنها تكثيف لتراث الأمة منذ آلاف السنين والتجلي الأنصع لروحها، التي تأبى أن تموت".

وقوف على أطلال الذاكرة

لم يكن يتوقع أبو نضال، وهو لاجئ سوري وصل وعائلته إلى برلين منذ بضعة شهور، أن يجد البوظة الشامية في برلين. تردد أبو نضال كثيرا قبل الكلام معنا. ورفض تصويره هو وعائلته وامتنع حتّى عن الإفصاح عن اسمه الحقيقي. لا يكف عن الالتفات يميناً وشمالاً. يبدو أنه مازال تحت تأثير صدمة قاسية تحفر أخاديد عميقة في روحه. تحاول العائلة فتح صفحة جديدة في حياتها، هنا في برلين، تتلمس أولى خطواتها في بلد شاءت الظروف أن يكون وطنا ثانيا مؤقتا، أو ربما وطنا بديلا. "لا أريد لأطفالي أن ينسوا عاداتنا"، يقول أبو نضال مجيبا عن سبب ارتياده المكان،" فأنا خسرت بلدي وشردت منه، ولا أستطيع تحمل خسارة أطفالي". هذه الأماكن هي همزات الوصل الممكنة مع الأوطان. يتذكر أبو نضال، والدمعة في عينيه، زياراته هو وعائلته لمحل "بوظة بكداش" في سوق الحميدية في قلب دمشق.

يبقى شارع "زونين أليه"، "شارع العرب"، الممتد على عدة كيلومترات الحبل السري الرابط بين المغتربين العرب وبلدانهم. كلما ضاقت عليهم ألمانيا بما رحبت، وجدوا أنفسهم تتجه شطره.

ترك تعليق

التعليق