السوريون ينقلون أنماطهم الغذائية إلى مصر ويدخلون السوق وفق الذهنية "الشامية"

لم تثن تداعيات الهجرة أو التهجير، السوريين، أو معظمهم، عن نقل عاداتهم وأنماطهم الغذائية، بل وضلوعهم في التجارة، إلى مواطنهم المؤقتة الجديدة، ولكن وفق الذهنية الشامية التي قد لا تعر مزيد اهتمام للظرف الموضوعي أو قدرة المستهليكن الشرائية، في مصر، مثالاً لا حصراً، جالت "اقتصاد" ووثقت أنموذج المطاعم، ويمكن عبره الاستنتاج وعليه، ربما القياس، حيث تشكّل المطاعم ومشاريع المأكولات السورية مهنةً رائجةً لكل من تقطعت به سبل العمل في مصر من اللاجئين السوريين إليها، في بلدٍ تفيض العمالة المصرية فيه على فرص الشغل المُتاحة، وتتدنى الدخول بصورة لا تتناسب مع مستويات المعيشة التي اعتادها معظم السوريين في بلدهم قبل الثورة.

وتلقى المأكولات السورية رواجاً نسبياً مقبولاً في أوساط شرائح عديدة من المصريين، ناهيك عن السوريين الذين باتوا في مصر، والذين تذهب تقديرات غير رسمية إلى أن أعدادهم فاقت نصف مليون نسمة.

وأمام نقص السيولة لدى كثير من السوريين اللاجئين إلى مصر، تشكّل محلات ومطاعم المأكولات السورية مجالاً مناسباً لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

يقول وسام حسان، وهو مصري يعمل في مجال السياحة، إن مشاريع المطاعم ومحلات المأكولات السورية، مشاريع ناجحة للغاية، شريطة ألا تكون أسعار المنتوجات عالية، وهي علّة لاحظها وسام في الكثير من مشاريع المطاعم السورية التي لا تُراعي انخفاض القدرة الشرائية للمصريين، مما يؤدي بتلك المشاريع إلى الفشل بعد فترة من الإقبال الأولي من كثير من المصريين على سبيل الاستكشاف وبدافع الفضول للتعرف على المأكولات السورية.

يقول وسام لـ"اقتصاد": "شرط ديمومة النجاح في هكذا مشاريع يتحقق في ألا تكون الأسعار مرتفعة، وأن تُراعي كل المستويات من المصريين، حتى تؤمن شريحة ثابتة من الزبائن، وألا يكون الإقبال على منتوجات المطعم أو المحل مؤقت".

تزداد فرص نجاح مشاريع المأكولات السورية في المدن والمناطق السياحية المصرية، خاصة في محافظة البحر الأحمر، وتحديداً في مدينة الغردقة المصرية، حيث يسود هدوء أمني نسبي، وتعيش المدينة بعيدة عن أجواء الاضطراب السياسي الذي يعصف بالعاصمة والمدن الكبرى بمصر، مع استمرار النشاط السياحي الذي، رغم محدوديته، ما يزال قادراً على دفع المدينة السياحية للحياة.

في شارع المدارس المزدحم بالسكان العاملين في السياحة، والذي تتواجد فيه عدة عمارات يسكنها سوريون، فتح واحدٌ منهم "فلافل البيك"، بعد أن هجر 6 أكتوبر، على إثر التوتر الذي ساد فيها بعيد الانقلاب على الرئيس المعزول محمد مرسي، وحصول بعض حالات التهجم على السوريين هناك، بتهمة تعاطفهم مع الإخوان المسلمين.

يقول فراس: "الإيجارات في 6 أكتوبر مرتفعة للغاية، والأوضاع لم تعد مستقرة وآمنة بشكل كافٍ، هنا بالغردقة الوضع أفضل بكثير".
وبخصوص نظرية وسام حسان، المصري، بضرورة تخفيض أسعار منتوجات المطاعم السورية، يؤكد فراس أن مشكلة عدم توافر المواد الأولية المناسبة، وغلاء أسعار تلك المُختارة، لإنتاج مأكولاتنا المعروفة، تضطرنا إلى رفع سعر المنتوج النهائي.

لقِي "فلافل البيك" رواجاً ملحوظاً في شارع المدارس بالغردقة حتى في أوساط المصريين، وأخبرنا بائع خضرة مصري أنه يشتري منهم "المسبحة" كل صباح كإفطار يومي بعد أن راقت له.

لا يُخفي فراس قلقه من أن يكون إقبال المصريين على منتوجاته مؤقت بسبب ارتفاع الأسعار مقارنةً بالمنافسين من المطاعم المصرية، لكنه يراهن على وجود سوريّ كبير في تلك المنطقة.

تقول هناء، وهي سورية مقيمة في الغردقة منذ حوالي السنة،: "لقد سعدنا جداً بافتتاح محلات أطعمة سورية، تزايدت في الفترة الأخيرة في الغردقة بعد نزوح بعض السوريين إليها، قادمين من 6 أكتوبر، تحديداً، في الصيف الفائت. كنّا قبل عام لا نجد أي منتج سوريّ نستهلكه، وقد عشنا أشهراً طويلة نشتهي الزعتر والجبنة والحلاوة السورية، وأشياء أخرى من المائدة التقليدية للـ (الحواضر) السورية المفقودة تماماً في سوق المأكولات المصرية".

قريب من شارع السنترال في الغردقة أيضاً، يفتح نبيل محلاً للـ "الحواضر" السورية، ويشهد إقبالاً من السوريين بالدرجة الأولى، لكنه يعاني من حين لآخر من حالات كساد مرتبطة بتدهور الأوضاع المعيشية للسوريين والمصريين على حد سواء، بسبب تذبذب سوق السياحة في الغردقة تحت تأثير الاضطرابات الأمنية والسياسية في باقي المدن المصرية.

يؤكد نبيل أيضاً مقولة نظيره فراس، بأن المواد الأولية التي تتطلبها المنتوجات السورية غالية في السوق المصرية، مما يجعل سعر المنتوج النهائي مرتفعاً، مؤكداً أنه يسعى قدر المستطاع لاجتذاب المصريين، لكنه يجد صعوبةً في ذلك لسببين: عدم تقبل البعض لثقافة الطعام السورية، وعدم قدرة الآخر على تحمّل أسعار المأكولات السورية.

في شارع الشيراتون الرئيسي في الغردقة المصرية، حيث تكتظ المطاعم والمقاهي والبازارات السياحية، يفتح مطعم شاورما سوريّ يحقق إقبالاً ملحوظاً، لكن بعض المصريين الذين سألناهم عنه أكدوا لنا أن أسعاره مرتفعة.

يبقى أن حظ السوريين الذين تمكنوا، بحكم السيولة المالية التي يملكونها، من أن يفتتحوا محلات أو مطاعم في منطقة الكوثر الراقية في المدينة، أوفر من نظرائهم في مناطق أخرى. إذ يسهم ارتفاع مستوى معيشة سكان تلك المنطقة في تقبّل الأسعار المرتفعة نسبياً للمنتج السوريّ.

وهكذا يبدو أن الغردقة في طريقها تدريجياً لأن تستنسخ صورة 6 أكتوبر قرب القاهرة بكثرة المطاعم والمحلات السورية، ويعتقد عمرو إدريس، سائق تكسي مصري عمل لسنوات في الخليج، أن الكثير من المصريين يحبذون المأكولات السورية، خاصة منهم أولئك الذين اختلطوا بالسوريين في دول الخليج المختلفة، ويحنون اليوم لاسترجاع ذكريات "الإفطار أو العشاء الشامي" التقليدي، بما يتضمنه من "لبنة وجبنة وزعتر ومكدوس ومسبحة..." ومأكولات أخرى مما لذ وطاب، حسب وصف عمرو.

وجهة نظر عمرو ليست قاعدة بين المصريين، فهناك شرائح واسعة منهم تستهجن ثقافة الطعام السورية، خاصة استخدام اللبن في الطبخ، ولا تتقبلها، لكن ذلك لا ينفي القاعدة التي تؤكد وجود سوق واسعة لاستهلاك المنتوج السوري في الأوساط المصرية، وتبقى المشكلة الرئيسية التي تواجه أصحاب مشاريع المأكولات بهذا الصدد، هي سعر المنتوج النهائي، وغلاء المواد الأولية الداخلة في تركيبه، حسب وصف من تحدثنا إليهم في هذا المجال.

ترك تعليق

التعليق