راتب الشلاح..شهبندر التجار اكتفى من الثورة بدعم المحتاج والابتسامة
- بواسطة عدنان عبدالرزاق - اقتصاد --
- 01 تشرين الثاني 2013 --
- 1 تعليقات
علمني والدي أن كثرة المال مفسدة وأن العلم والسمعة هما الأبقى
قد يشك البعض في إمكاناتي لكنني أعتقد أن لاأحد يشك في نزاهتي
الأسد اتهم الشلاح باستغلال ظرف حصار العراق لأنه كان صاحب التوقيع الذي لايُرد
وإن ابتعد"الحاج راتب" عن الثورة و السياسة ظاهرياً، واكتفى بهجر مسقط رأسه دمشق و تمويل من يستحق وإعطاء المحتاجين، لكنه بيضة قبان في نظر التجار ورجال الأعمال على الأقل، فهو رئيس اتحاد غرف التجارة السورية لنحو عقدين من الزمن والرئيس الفخري الدائم...والأهم أنه ابن ما يقال عنه رئيس محفل الماسون في الشرق الأوسط، بدر الدين الشلاح.
في مكتب الشلاح الأب بدر الدين سابقاً، والابن راتب اليوم، قبالة السفارة البابوية في دمشق، ترى عادات رجال أعمال أيام زمان وإن دخلته –المكتب– آخر مستجدات التكنولوجيا ووسائل الاتصال، المكتب يفتح أبوابه قبل الثامنة صباح كل يوم، الجدران مزدحمة بالشهادات والأوسمة وصور السلف والخلف مع الرؤساء والزعماء، إلا أن صورة الأب بدر الدين يعانقه الابن راتب وبالأبيض والأسود محتلة مكان الصدارة، وكأن الرسالة الأولى التي يريد إيصالها رئيس اتحاد غرف التجارة السورية راتب الشلاح (81 سنة) "أنا ابن هذا وأنا على وصيته وهديه أسير".
في ذلك المكتب الأقرب إلى المتحف الصغير لما يختصر من مسيرة قرن من ذكريات العمل التجاري للأب والابن التقيت راتب الشلاح الذي بدا عليه التعب وإن كابر ونالت من ملامح وجهه السنون وإن تنكّر، إلا أن رائحة حب الحياة والناس تفوح مذ دخولك المكان، فأجندته اليومية من عمل ومواعيد تمتد لست عشرة ساعة وما يسند إليه من مهام، إن بدأت في إدارة سوق دمشق للأوراق المالية لا تنتهي عند إدارة مصرف خاص، وما بينهما من أعمال تجارية واجتماعية وخيرية إنما تدلل جميعها أن ما يعتبره أولى دروس المرحوم بدر الدين الشلاح "حب العمل" إنما غدا مكوناً رئيساً من مكونات يومه ومزاجه... وربما دمه أيضاً.
دروس خصوصية
في حكاية "علامه" شجون ودروس، يرويها كعاشق يتغنى بجمال محبوبة هجرت، "درست الابتدائية في مدرسة (الست زيتونة) بالتزامن مع مدرسة الحياة في معمل الوالد، وما بين المدرستين إلا مشوار الطريق ووجبة سريعة غالباً ما تكون "ع الواقف" لأتعلم الحساب والقراءة في الأولى وقدسية العمل وحب الناس وصون حقوقهم في الثانية".
ربما عدم التحصيل العلمي من قبل الأب دفع بالابن ليحمل غير بطيخة بيد واحدة، لكن للعلم الأولوية، "أن تأتي عطلة الصيف يعني أن نقيم في مزرعة الوالد في جرمانا، ويعني أن أعمل في الصناعات الغذائية لأربع عشرة ساعة كل يوم ما أكسبني عادة العمل الطويل حتى اليوم"، ولأن هاجس العلم وحبه هاجس الأب، أرسل الابن راتب إلى مدرسة (سعادة الأبناء) ليتعلم الحساب ومن ثم مدرسة (أبو رمانة) ليجيد الإنكليزية ولينتقل عام 1950 إلى مدرسة داخلية في إنكلترا.
"ليس من قبيل التغني بالماضي، يقول الشلاح، لكني اختصرت السنوات الثلاث بسنة واحدة في المدرسة البريطانية، رفض والدي حرق المراحل، أصرت المدرسة وزودتني بوثيقة تقول إن زملاء راتب تعلموا منه الكثير، تعلموا الأدب وحب الناس، تلك الوثيقة ظلت في محفظة والدي الشخصية حتى وفاته، بل وطلب أن تدفن معه ليريها للمولى كي يعفي عن أخطائه".
يتوقف الشلاح كمن فاته الإدلاء بالحقيقة، تغرورق عيناه، يكابر ثم يتابع عن رحلته العلمية في جامعة (أكسفورد) التي نال منها شهادة الاقتصاد والإدارة ومن ثم الماجستير عام 1956 لينتهي طلب العلم في الولايات المتحدة والحصول على درجة الدكتوراه في المالية والمصارف عام 1961.
رحلة الألف خيبة
لا يفوت الشلاح التفريق أثناء القياس بين مسطرة اليوم ومسطرة يوم الوالد، فرغم أن لكل زمان دولة وتجاراً، إلا أن دروس الحياة تتشابه والمبادئ تتطابق، وإن يصعب الفصل في مسلمات كالوطن والغيرية وصدى الاسم، على اختلاف الأزمان.
بدأ الشاب الدكتور في العمل التجاري مع أبيه وعمه دونما أجر مخصص ولا نسبة محددة، إلا أن الأمل في معمل الجوخ عام 1965 دفعه ليعول على حصة، أو أن يجد علمه الذي استقاه من لندن وواشنطن صدى، في آلية التعاطي على الأقل، إلا أن سيف التأميم كان الأسبق"أممت سوريا الملكيات الخاصة أثناء وحدتها مع مصر" ليبتر حلم المعمل بعد استقدام آلات مزج الصوف، ليكون العود إلى الصناعات الغذائية والتصدير.
في تلك الآونة كان العائد بشهادة الدكتوراه يدرّس في الجامعة الأمريكية في بيروت وفي جامعة دمشق، فأيام أسبوعه مقسومة بين البلدين، ولكن في دمشق هناك العمل لدى (الأخوين شلاح بدر الدين وشفيق) إلى جانب التدريس في الجامعة، وعندما طاب للشاب الاستقرار في لبنان، تابع أبوه تلقين الدروس، دروس الحياة بأن اعتذر عن تقديم أي معونة مالية "ابدأ في بيروت إن شئت ولكن اعتمد على نفسك".
في بيروت، وفي غرفة واحدة للشاب المتعلم وزوجة وثلاثة أولاد، كانت محطة جديدة منذ مطلع عام 1966، محطة يتخللها التدريس في الجامعة الأمريكية وملامح تجارة لم تتبلور بعد وإدارة أعمال رجل الأعمال السعودي حسن الشربتلي، ما يعني دخلاً سنوياً بنحو 36 ألف ليرة لبنانية، ما دفع بالشاب للتفكير بتغيير المسكن والتنعم بالحياة، إلا أن دروس الأب العملية حالت دون ذلك،"قُهرت وقتها لأني لم أعِ الرسالة وظننت أن أبي لا يريد تحسين مسكني وطريقة معيشتي، وبدا عليّ القهر، فغافلني أبي عندما كنت في أوروبا واستأجر مسكناً جميلاً على الروشة، لكنه لم يدفع أياً من أجره يوماً".
في عام 1969 وعندما بدأ راتب الشلاح يشعر بادخاره، فاجأه الدرس الآخر، خسارة في الأسواق المالية وانخفاض سعر الجنيه الاسترليني (العملة الرئيسية وقتذاك التي يصدر بها إلى السعودية ومصر والسودان) وتلاعب مسؤول الحسابات في بيروت الذي كان يمسك دفاتر الشركة مع الشربتلي، فوقع الشلاح في عجز وأيضاً لم يلقَ من الوالد الدعم المالي المنتظر، وبعد عشرين سنة وعندما عتب راتب الشلاح قال له المرحوم بدر الدين: "لو أني ساعدتك وقتذاك لما رأيتك عما أنت عليه الآن".
فرج ما بعد الخيبة
إن كان عام 1969 نهاية البداية إثر العجز المالي، فهو أيضاً عام الانطلاقة وموسم التجارة إلى السودان وعام الحصول على وسام إثر سد العجز في مادة الطحين بعد تصدير 30 ألف طن قمح، وهكذا بدأت الأيام "تجلس" وبدأت التجارة تؤتي أُكُلها إلى أن عاد إلى دمشق التي لم ينقطع عنها يومين على الأقل كل أسبوع، عاد إليها بشكل كامل.
يقول الشلاح "رأسمالي وقتذاك ضعف ما أملك الآن" لأن دخولي في غرفة دمشق التي حرصت أن يغادرها والدي بعد أن تعب ونالت منه السنون لست وأربعين سنة فيها، جعلني أنكب على إثبات ما راهن عليه الزملاء الذين دفعوني مجبراً إلى جانب والدي إلى الترشح وحرصوا على أن أترأس الغرفة".
بدأت أعمال راتب الشلاح تتوسع في دمشق فأقام معملاً لتكسير بذور المشمش ولايزال حتى الآن ومعملاً للحرامات، وهنا غص الشلاح مرة ثانية واغرورقت عيناه بالدموع، فمعمل الحرامات كان شراكة بين مرحومين، أولهما ابنه الشاب الذي فقده منذ سنين قليلة.
في مرحلة ما بعد الخيبة وفي مرحلة التحول بدأت صناعات جديدة تدخل السوق السورية، ومنها الصناعة المصرفية التي ألح الشلاح على دخولها، وقد طلب منه الرئيس بشار الأسد قبل تسلمه مهام الرئاسة تقديم دراسة عن دخول المصارف الخاصة، وبعد أن دخلت المصارف الخاصة ساهم الشلاح بنسبة 2.5% من رأسمال بنك لبنان والمهجر (30 مليون دولار) وهو الآن رئيس مجلس إدارة المصرف.
تعددت المهام والراتب راتب
"قد يشك البعض في إمكاناتي أو في أسلوب إدارتي، لكنني أعتقد أن لا أحد يشك في نزاهتي وحرصي على مصالح زملائي قبل مصلحتي"، قد يكون لهذا الكلام سببه الموجع، فأثناء حصار العراق كان الشلاح سيد موقف التجار وصاحب التوقيع الذي لا يرد، اتهمه البعض، ومنهم الرئيس بشار الأسد، باستغلال الظرف والموقع، لكن قوائم ما بعد الحصار أكدت أن الشلاح لم يوقع أي عقد مع العراق.
ومن كلمات سر نجاح الشلاح "علمني والدي أن كثرة المال مفسدة وأن العلم والسمعة هما الأبقى" وكأن في هذه المقولة رسالة عن رأسمال الشلاح الذي يملك وكالة سيارات نيسان، إضافة إلى معمليه، من رأسماله الذي لا يرقى لمستوى المتوقع "ليس لديّ مئة مليون دولار ولكن معي أكثر من مئة ألف".
له قرص في كل عرس اقتصادي، لأنك قلما ترى لجنة اقتصادية خلت من راتب الشلاح، وقلما تجد وافداً اقتصادياً إلا وله فيه مساهمة وإن استشارية، فراتب الشلاح الذي يترأس اتحاد غرف التجارة السورية فخرياً هو رئيس مجلس إدارة مصرف خاص وهو رئيس مجلس إدارة سوق دمشق للأوراق المالية ونائب رئيس غرفة التجارة الإسلامية وعضو في لجنة جامعة في السودان وعضو في مجلس أمناء الجامعة الدولية، وغيرها، لذا سألته كيف ينسق ويقسم يومه فقال: "لا أنكر أني تعبت من كثرة الركض، أعمل بمعدل ست عشرة ساعة كل يوم، لكني سأنصرف إلى العمل الإنساني الخيري والالتفات لأهلي، فهم من وقفوا إلى جانبي أثناء وفاة والدي وولدي"... واغرورقت عيناه ثالثة.
نصيحة مجرّب
عندما سألت راتب الشلاح عن المناصب الحكومية التي ترشح إليها قاطعني مختصراً: "كنت في شبابي أطمح بمنصب لا أنكر، لكن إمكاناتي الذاتية لا تخولني.. لذلك كنت أعتذر". أما عما خلص إليه من قسوة والده التي يعترض على وصفها بالقسوة فيقول "تلك الدروس هي من صنعت راتب، لم أعتمدها ذاتها مع أولادي، لأن الزمن تغير، لكني أوصلتهم للقناعة ذاتها وإن بأساليب مختلفة" وتابع حول التجار الجدد "أبارك وأهنئ الشباب لأنهم نجحوا كما أعول على نجاحهم وإن كان لي على بعضهم الضجر السريع وحب الوصول السريع، الرعيل الأول أبقى حتى على العلاقات الطيبة مع الدول العربية عندما تسيء بعض العلاقات السياسية، وهكذا أدوار لقطاع الأعمال قلما نجده الآن".
أوصيكم بالمرأة خيراً
راتب الشلاح المسكون بهواجس الأمة "لا خلاص لنا إلا باندماجنا ووحدتنا كعرب" والساعي للعمل الخيري والاجتماعي "علي أن أقدم كما قدم والدي في بناء جوامع ومستوصف وأرض لمشفى، أولاد البلد لهم عليّ الكثير" لم يفته أن يشير في آخر لقائي معه الذي دام لساعات إلى أن يوصي بتعليم المرأة وإعطائها الحرية والثقة "امرأة متعلمة ستكون ربة منزل أفضل وتاجرة أفضل وقائدة أفضل، وأنا أفتخر بابنتي التي حصلت على شهادة جامعية وأجادت العزف على آلة موسيقية والرسم كذلك، بل وبعد زواجها لم تكتف بإجادة اللغتين الفرنسية والإنكليزية، بل تعلمت الإسبانية والإيطالية والآن تحضر للحصول على شهادة عليا في الفنون العربية من إحدى جامعات إسبانيا .".
فقط ابتسامة متعددة
تبدل موقف راتب الشلاح من انتفاضة السوريين، وخاصة بعد "أسلمتها" وسيلان الدم، فهو من أوائل من قيل إنهم يدعمون الحراك السلمي والثورة في بداياتها، وهو أهم من دفع للحل السياسي من خلال مبادرة الضمير التي انفردت الزميلة "زمان الوصل "بنشرها، لكنه غاب حتى عن أحاديث الثورة، أفشى لي خلال لقائنا بأنه يتعرض للوعيد من كلا الطرفين...قبل أن أغادر سألته عن الثورة، ولماذا لم يعلن موقفاً وهو ما قد يكون بيضة قبان، وخاصة لذوي المال والتجارة، فاكتفى بابتسامة، كما ابتسامته الدمثة الدائمة التي تحمل رسائل قد لا يفهمها إلا من يعرف دور بدر الدين قبل راتب الشلاح في سوريا وربما في وصول آل الأسد للسلطة.
التعليق