استراتيجية ترامب ضد الصين: ضربة استباقية أم مقامرة كبرى؟


منذ اللحظة الأولى لتوليه الرئاسة، لم يتعامل دونالد ترامب مع الصين بوصفها شريكاً اقتصادياً بحتاً، بل باعتبارها خصماً استراتيجياً يتطلب تحركاً استباقياً حاسماً. الإجراءات التي اتخذها، من فرض الرسوم الجمركية إلى تشديد القيود التكنولوجية، لم تكن مجرد ردود فعل آنية، بل انعكاس لرؤية ترى في بكين تهديداً متصاعداً لدور واشنطن القيادي عالمياً.

ما سعت إليه إدارة ترامب – وتدعمه في جوهره العديد من دوائر صنع القرار الأمريكي – تجاوز بكثير تقليص العجز التجاري، ليصبح محاولة صريحة لكبح طموحات الصين قبل أن تستكمل أدواتها للنفاذ إلى موقع القوة العظمى المنافسة.

المنطق الكامن خلف هذه الاستراتيجية يُختصر بالمعادلة التالية: التحرك الآن، مهما كان مكلفاً، أهون من مواجهة نظام عالمي مستقبلي لا يدور في فلك المصالح الأمريكية.

ضمن هذا السياق، لم تعد الرسوم الجمركية والعقوبات أدوات اقتصادية تقليدية، بل غدت أدوات ضغط جيوسياسي تستهدف تعديل المسار الصيني، إن لم يكن ردعه.

غير أن هذا المسار لم يخلُ من مجازفة؛ فالصين، بقوتها التصنيعية، ومرونتها المؤسسية، وحنكتها الاستراتيجية، لم تكن خصماً سهلاً، كما أن الاقتصاد الأمريكي لم يكن بمنأى عن تبعات هذا التصعيد.

لنلق نظرة على تحول النظرة الأمريكية إلى الصين:

عقودٌ طويلة تعاملت فيها واشنطن مع بكين كشريك اقتصادي محتمل، يمكن إدماجه تدريجياً في المنظومة الليبرالية العالمية. لكن ما إن بدأت الصين تنجز صعودها التكنولوجي، وتُظهر استقلالية سياسية متزايدة، حتى تغيرت القراءة الأمريكية لها.

لم تعد بكين تُرى كمجرد مصنع كبير للعالم، بل كمشروع قوة كبرى يبني مؤسساته، ويعيد رسم خريطة النفوذ عبر أدوات مالية وتقنية وتحالفات استراتيجية.

إذن ما هي خيارات ترامب – وهل هي ضرورة أم مقامرة؟

قرارات إدارة ترامب لم تأتِ ارتجالاً. بل شكلت تجسيداً لتقييم استراتيجي مفاده أن الوقت المتاح لتقويض الصعود الصيني يضيق بسرعة.

فانتظار اكتمال البنية التكنولوجية والعسكرية للصين، سيجعل كبحها لاحقاً أكثر تكلفة، وربما مستحيلاً. من هنا جاء القرار بتكثيف الضغوط الاقتصادية، ولو ترتب على ذلك أضرار آنية.

الصين عادة ما اختارت عدم الانجرار إلى تصعيد فوري في ردودها على العقوبات الأمريكية على كبريات شركاتها، بل انتهجت استراتيجية مدروسة تهدف إلى تقوية الداخل، تنويع الشركاء، وتوسيع النفوذ دون الدخول في مواجهة شاملة.

فمن خلال تعزيز الاكتفاء الذاتي، والاستثمار في البنية التحتية العابرة للحدود، وتقليل الاعتماد على النظام المالي الغربي، تسعى الصين لبناء مناعة اقتصادية استراتيجية.

وحقيقةً، هذه السياسة الصينية هي التي اضطرت رجل البيت الأبيض للإقدام على إشعال النار بالجميع.

السؤال اليوم، هل ستستمر الصين في نفس نهجها بتجنب الدخول بصراع مباشر مع أمريكا؟ الحقيقة هي أمام خيارين أحلاهما مر!

ما نشهده اليوم هو بداية انقسام اقتصادي–تقني عالمي، لا يقوم على الأيديولوجيا بل على شبكات المصالح والتكنولوجيا والتدفقات المالية، من جهة: كتلة غربية تسعى إلى تقليص الاعتماد على الصين وتعزيز صناعاتها المحلية. ومن جهة أخرى: كتلة بقيادة بكين، تنسج علاقات بديلة وتستقطب دولاً تبحث عن نظام عالمي أقل خضوعاً للمركزية الأمريكية.

فما هو مستقبل الصراع – حدود التوازن والهيمنة؟

الاحتمال الأكبر في ظل هذا التوتر المتصاعد، هو صراع طويل لا يحسم عسكرياً بل اقتصادياً وتقنياً.

صراع تُقاس نتائجه بقدرة كل طرف على التكيف، والتحكم في سلاسل القيمة، وإعادة تشكيل التحالفات التجارية.

صراعٌ بارد في ظاهره، عميق في تأثيراته البنيوية.

وهنا يبرز لنا سؤال ملح: هل الصين مستعدة للانفصال الكامل؟

البيانات الاقتصادية الراهنة تشير إلى صعوبة انفصال الصين المفاجئ عن السوق الأمريكية دون أن تدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً. صادراتها إلى الولايات المتحدة تشكل مكوناً مهماً في فائضها التجاري، والعديد من قطاعاتها التكنولوجية تعتمد على واردات غربية.

لكن بالمقابل، تعمل بكين وفق منطق التدرج: بناء أسواق بديلة، تقوية الطلب الداخلي، وتطوير تقنياتها الخاصة. ذلك أن فك الارتباط لا يتم بقرار سياسي، بل عبر عملية شاقة تتطلب سنوات من التحول الهيكلي.

وبين المدى القصير الذي تحكمه الضرورات الاقتصادية، والمدى البعيد الذي يُخطط فيه الاستراتيجيون، تتحرك الصين بخطى حذرة نحو تقليص التبعية دون أن تفقد زخمها.

الخلاصة: ما بدأه ترامب لم يكن مجرد سياسة تجارية هجومية، بل لحظة كاشفة لمرحلة جديدة من إعادة تشكيل النظام الدولي.

الصين لم تعد مرشحة للصعود فقط، بل باتت لاعباً فاعلاً في إعادة توزيع الأوزان، وأمريكا، بحدسها الاستراتيجي، بدأت تدرك أن الحفاظ على مركزها يمر عبر المواجهة.

وبين رؤيتين للعالم – إحداهما أحادية المركز، والأخرى تعددية التوجه – يتشكل توازن جديد قد لا يحسمه انتصار طرف، بل قدرة الطرفين على التعايش الصعب ضمن نظام عالمي جديد يُكتب الآن.

ولعل السؤال الأهم لم يعد: من سيفوز؟ بل: كيف سيبدو العالم عندما تهدأ جلبة هذه المواجهة؟

 

ترك تعليق

التعليق


أعلى