بين أيمن أصفري وغسان عبود


رغم قوله أكثر من مرة بأنه ليس سياسياً ولا يحب أن يمتهن السياسة، وإنما هو رجل أعمال ويفهم بالاقتصاد ويفضل الحديث عنه، إلا أن حديث السياسة طغى على الاقتصاد، وخصوصاً آخر نصف ساعة، التي رأى فيها الكثيرون بأنها الأهم من كل الحوار الممتد على مدى ساعة و27 دقيقة.

آخر نصف ساعة في حواره مع تلفزيون سوريا، خصصها رجل الأعمال أيمن أصفري للحديث عن الإدارة السورية الجديدة وتقييم أداءها، وفيها أطلق الكثير من الآراء السياسية، التي قد تكون حادة وصادمة من وجهة نظر البعض، لكنها لاقت ترحيباً كبيراً من قبل البعض الآخر.

الفرق بين "البعضين"، يلخص حال سوريا اليوم في أعقاب سقوط النظام، حيث أن هناك أكثرية ترى أنها استعادت الحكم والسلطة بعد أكثر من ستين عاماً من الإقصاء والتهميش، وبين باقي الأقليات من مكونات الشعب السوري، التي ترى أن ما تفعله الإدارة السياسية الجديدة، إنما هو إعادة إنتاج لنظام الأسد، لكن بنسخة "سنية".

اللافت أن أصفري، المنتمي للأكثرية السنية كما يصف نفسه، يصطف في الجانب الذي يرى أنه لا بد من إشراك جميع الأقليات والمكونات في السلطة لكي تنجو البلد وتتحول إلى سنغافورة كما يحلم حكامها الجدد، وهو ما يأخذك مباشرة للمقارنة بينه وبين ابن مدينته إدلب، رجل الأعمال غسان عبود، الذي يصطف في الجانب الذي يرى بأن الأقليات أخذت أكثر من حقها خلال الحقبة السابقة، وكانت النتيجة دمار سوريا واضطهاد السنة. لذلك بالنسبة له، فإن أولوية الإحكام على السلطة من قبل الأكثرية، مقدم على ما سواه مما يطالب به البعض من دولة ديمقراطية وعلمانية ومدنية.

دعونا نفترض أن حديث الرجلين في السياسة ليس بريئاً، بل أكاد أجزم بأن الاثنين لديهما طموح سياسي واضح في سوريا الجديدة، ويبحثان عن دور فيها، بدليل أنهما الوحيدان من بين كل رجال أعمال سوريا، اللذين خرجا في لقاءات شخصية، وقدم كل منهما ما يشبه البيان السياسي أو مشروعه لقيادة البلد، تحت ستار وجهة النظر. وإلا ما الدافع من وراء ظهور أيمن أصفري الأخير، وهو المتوراي عن الحوارات منذ العام 2016..؟ هل السبب لكي يوضح وجهة نظره حول الشائعات التي طالته خلال الفترة الأخيرة عن توليه رئاسة الحكومة، كما يقول..؟

برأيي في البداية أن تسريب الشائعة وتورط وسائل إعلام معروفة في نقلها، لم يكن من فراغ، ويمكن فهمها ببساطة بأن هناك أطرافاً مقربة من أصفري وتعمل معه، هي من قامت بتسريب هذه الشائعة، ضمن خطة الهدف منها ربما إظهار اسمه كرأس آخر في النظام الجديد، ومن ثم فإن خروجه الأخير على تلفزيون سوريا، يفسر بعضاً من هذا الأمر، لأن حديثه السياسي والمواقف التي أطلقها، رغم إصراره على أنه لا يبحث عن أي دور سياسي مباشر، لكن كان الأمر واضحاً بأن الرجل ألقى قطعة حديدية في الجرن النحاسي الفارغ.

في شهر آب من عام 2019، كتبت مقالاً مطولاً عن رجل الأعمال أيمن أصفري، تحت عنوان "الملياردير أيمن أصفري.. حريري المعارضة السورية"، وألمحت فيه إلى أن الرجل بما قدمه من أعمال كثيرة للمعارضة السورية، إنما يبحث عن دور سياسي أكيد في سوريا القادمة، وأشرت إلى علاقاته مع الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين من الصف الأول والثاني، لا يمكن تفسيره بأنه يحب بلده فقط..! ومن جهة ثانية فإن هذا لا يعيبه أو ينتقص منه بل من حقه كمواطن سوري ناجح أن يطمح بأعلى المناصب. ويومها اعترض صديقه سمير سعيفان على بعض الفقرات الموجودة في المقال، على الرغم من أنني أخذتها من لقاءاته بالحرف، واضطررت لتغييرها.

وعلى فكرة، ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها تداول شائعات عن تولي أيمن أصفري منصباً سياسياً، فقد سبق أن ثارت نفس الشائعة في العام 2015، عن توليه رئاسة الإئتلاف، ويومها خرج على قناة "بي بي سي" في مطلع العام 2016، ليقول نفس الكلام الذي قاله في لقاء تلفزيون سوريا، بأن أحداً لم يعرض عليه أي منصب، ولو عرض عليه لرفض، ثم يحتج على مروجي هذه الشائعات بأن ليس لديه حزباً سياسياً لكي يكون لديه طموحاً سياسياً.

وفي ذات اللقاء تحدث بنفس الكلام تقريباً، قصة المريض والعناية المشددة، كما أكد ضرورة إشراك الجميع في حكم سوريا وبالذات جميع الأقليات والمكونات، ورفضه للحكم الإسلامي.

أما بخصوص ابن مدينته إدلب، رجل الأعمال غسان عبود، فهو يقدم وجهاً مغايراً ومناقضاً بالكامل لوجه أيمن أصفري. وهذا التناقض يفسره منبت الرجلين من بيتين مختلفين ثقافياً واجتماعياً، ومن ثم مسيرتهما الحياتية وتجربتهما في العمل والنجاح ومدى احتكاكهما بالبلد وأبنائه، بالإضافة إلى اختلاف علاقات كل منهما مع النخب السياسية الغربية، التي تصب بكل تأكيد لصالح أصفري، لكن عبود لا ينفي طموحه السياسي، أو على الأقل تحدث أكثر من مرة في لقاءاته أن من حقه أن يحلم بأي منصب سياسي في بلده، بما في ذلك منصب الرئيس، وهذا يضعه في الجانب الشعبي، الذي يمثل الأغلبية في سوريا.

إذاً، قد يرى البعض أننا أمام رجلي أعمال، كل منهما اتخذ موقفاً سياسياً، يعبر إلى حد كبير عن حالة الاصطفاف الحاصلة في سوريا اليوم، لكن من يقرأ لقاء أيمن الأصفري الأخير بشكل متأنٍ، وهو في بريطانيا، سوف يدرك أن الرجل لم يقدم وجهة نظر سياسية أو نصيحة فحسب، وإنما قدم ما هو أكبر من ذلك بكثير.. ولعل الأيام القادمة هي من ستفصح ما إذا كان هذا التجاذب، أكثرية وأقلية، وإقصاء ومشاركة، سوف ينتقل إلى دائرة الصراع أم سيبقى في دائرة الحوار.. لكن بكل تأكيد فإن أيمن أصفري فتح النار على الإدارة الجديدة، حتى لو أنه نفى أن يكون هذا هو مقصده من اللقاء.

 

ترك تعليق

التعليق


أعلى