قصّة مساعد متقاعد من ريف جبلة مع ليلة رأس السنة


جلس "عليّ" بالقرب من المدفأة وتوجه بالحديث إلى والده "يا بيّي بكرا بدّي مصاري، لازم انزل ع (جبلة) وجيب كيلتين سمك ولتر عرق وشوية مازا منشان سهرة راس السنة".

كان رد والده سريعاً بأن قذفه بعود حطب أصابه على ظهره، وانهال عليه بسيل من الشتائم "يا ابن الـ....... بدك تسهر ما؟ ولَك يا ابن ... راتب أبوك كلوا عشهرين ما بيشتريلك اللي قلته".

كرر "سمير" العبارة والصراخ على ابنه مراراً وتكراراً "تريد سمك يا ابن الـ... وبدك تسهر وتسكر ما؟ ولك ليش نحنا عم نقدر نجيب حق الخبزات، وكمان بدك حق العرقات، تفو عليك وعاللي خلفك".

كان "أبو علي" المساعد المتقاعد "سمير . ح" قبل يوم واحد في مدينة جبلة، وكان يفكّر كيف سيؤمن مستلزمات الاحتفال بعيد رأس السنة الميلاديّة لهذا العام، تجوّل طويلاً في المدينة، لم ينس أن يذهب إلى سوق السمك، واكتفى بمعرفة الأسعار ولم يشتر سمكة واحدة.

راقب كيف تأتي السيارات الفاخرة، ويترجّل منها أصحاب الياقات البيضاء من عائلة الأسد والمقرّبين منهم، ويشترون كميات هائلة من الأسماك واللحوم بعشرات الكيلوغرامات، ويدفعون الملايين ثمناً لها.

شاهد كيف تترجل الفتيات مع مرافقتهم الخاصة، في الأسواق وتشتري فساتين السهرة، وتدفع ثمنها مئات آلاف الليرات، استعداداً للاحتفال، دون أن تلتفت إلى المشردين في الشوارع، والفقراء الذين يبحثون عن لقمة عيش في بقايا أسواق الخضار وأمام المحلات التي ترمي فضلاتها إلى الكلاب الشاردة.

خلال جولة "أبو علي" في سوق السمك شاهد الأسعار التي اعتبرها بالقياس إلى راتبه الذي لا يزيد عن "60" ألف ليرة، خيالية، رأى بأم عينه كيف أن الأغنياء وتجّار الدم والمسؤولين يشترون دون أن يسألوا عن الأسعار، وكيف يتراكض الباعة لخدمتهم وينحنون بإجلال احتراماً لأموالهم، وخوفاً من مرافقتهم.

سمع "أبو علي" أحد كبار اللصوص من الضباط الأسديّين وهو يوصّي بائع سمك على "10" كغ من سمك القريدس، يريده طازجاً، ومشوياً وجاهزاً للمائدة، وواصلاً إلى المنزل في القرداحة في الساعة العاشرة ليلاً، وشاهده وهو يدفع للبائع "1,5" مليون ليرة سورية ثمناً لها.

شعر بالذّل وأحسّ أن كلاب السادة المسؤولين وأبناء العائلة الحاكمة أهم منه ومن عائلته، وأن حياة ابنه التي فقدها من أجل بقائهم في مناصبهم باسم الوطن، قد حوّلوها إلى أموال تتكدّس في خزائنهم.

جلس على قارعة الرصيف بكى وبكى ومسح دموع عينيه، وأحنى هامته وانطلق باتجاه الكراج عائداً إلى ذله وجوعه في قريته.

بعد وصوله إلى القرية حمل فأسه، وانطلق باتجاه الغابة القريبة التي لم يتبق منها سوى بقايا أحطاب يابسة محروقة، أمضى بقية نهاره وهو يحاول أن يؤمن ما يُشعل ناره ويدفّئ عائلته، أفرغ ما استطاع من حقده شتائماً وعرقاً.

أخرج أبو علي علبة تبغه ودرج سيجارة عربية، وبصق بقايا ورقة الّلف في كل اتجاهات المنزل، ثم لف سيجارة ثانية، وقدّمها لـ "عليّ" الّذي لم يردّ بكلمة على والده، مع أن دموعه قد بللت خديه.

قال أبو علي لابنه "نفّخ هالسيكارة، لا تزعل بكرا بنجبلنا ظرفين شراب الليمون وأمك بتسويلنا شوية سليق، ومنفرملنا قرصين شنكليش، مع صحن زيتون، وبنقعد نغني سكابا يادموع العين سكابا ومنسهر".

جلس بجانب ابنه ولفّه بيديه وبدأ بالغناء:

"سكابا يادموع العين سكابا على أهل ضيعتنا وشبابا، يلعن بو الأسد وحكومتنا واللي جابا".

ترك تعليق

التعليق