"أبو جعفر جويّة" يعود من السوق


جمع "أبو جعفر جويّة" جميع ما في منزله من أموال، توجه إلى سوق بانياس من أجل إحضار ما طلبته زوجته، نار الأسعار كانت أقوى من لهيب الشمس ورطوبة الجو، وعاد يجر أذيال الخيبة مع بضعة أشياء ضرورية.

ألحت وألحت "أم جعفر" على زوجها من أجل شراء مواد تموينية ضرورية، من أجل الطعام، بالإضافة إلى خضروات وفواكه وألبسة.

تمتم بكلمات غير مفهومة وهو يجمع ما يوجد في المنزل من أموال، كان قد خبأها من أجل يوم عسير.

استطاع خلال السنوات الماضية أن يوفر حوالي "200" ألف ليرة سورية من رواتبه التقاعدية، بعد أن أحيل على التقاعد من شعبة المخابرات الجوية، ومن رواتب ولديه الذين قتلا في زمن الثورة على جبهات القتال.

قُتل جعفر الذي طوّعه في المخابرات الجوية ليكون خلفاً له في دمشق، خلال مواجهة مع ثوار الغوطة.

أما "عليّ" فقد عاد جثة هامدة بعد التحاقه بالخدمة الإلزامية، بعد أن كان قد أنهى دراسة الهندسة المدنية، مع وجود طلق ناري في رأسه، ادعت سلطات الأسد أنه قد أصيب بها في معركة القصير.

كان "أبو جعفر" يعلم أن الأسعار قد ارتفعت بعد هبوط قيمة الليرة، ولكنه لم يدرك أن حجم الأموال التي كان يعتبرها كنزاً فيما مضى أصبحت أقل من أن تلبي حاجته لوقت قصير.

لم يستطع أن يستوعب هذا الارتفاع الهائل في الأسعار، وخصوصاً أنه كان معتكفاً لشهرين متواصلين في قريته، التي تقع شرق بانياس في أعالي الجبال بالقرب من الفوج "49" دفاع جويّ.

صدمته الأولى كانت عندما اضطر لدفع "2500" ل س أجرة حافلة النقل التي تتسع لأربعة عشر راكباً، بعد أن كانت لا تتجاوز "600" ل س خلال رحلته الأخيرة، قبل شهر رمضان الماضي إلى بانياس.

وصل إلى السوق، استعرض الأسعار دون أن يقترب من المحلات، حاول أن يستوعب ما يجري، وكيف أصبحت أربعة أضعاف، شعر بالغثيان والدوار، دخل إلى حديقة جامع أبو بكر الصديق، رشق على وجهه الماء، جلس في الحديقة، دخن لفافة تبغ أولى وثانية وثالثة من تبغ البصمة الذي يزرعه في قريته.

حمل عصاه وعاد إلى السوق، فزوجته تنتظر أن يُحضر لها ما كتبته في لائحة طويلة وضعتها في جيب سرواله، وهو لا يستطيع أن يرفض لها طلباً، ويخشى لسانها السليط.

زوجته تريد مروحة وفستاناً وبيجاما وألبسة داخلية وأقمشة من أجل تغطية طقم الكنبة القديم، والأرائك التي أصبح منظرها مزعجاً، وتسبب لها الخجل أمام نساء القرية، وهي التي كانت ترفل في نعيم سابق، ومصروف غير محدود، فدَخلُ زوجها كان مرتفعاً نتيجة ما يحصل عليه من هدايا ورشاوى، وما يسرقه من طعام، وما يكرمه به أصحاب المحلات الدمشقية كسباً لودّه، وتجنباً لشرّه.

كما أنها أعطته تعليمات بعدم العودة إن لم يشتري لنفسه قميصان وسروالان، يليقان به أمام رجال القرية مع حذائين بني وأسود.

تلمّس جيبه المنتفخ بأوراق النقود التي فقدت قيمتها، فقد كان يستطيع شراء سيارة بها فيما مضى والآن لا تكفيه لكسب ودّ زوجته أو رسم بسمه على وجهها.

حاول أن يختصر الكثير، ولكنه لا يستطيع إغضاب الزوجة، فهو لا يستطيع احتمال نقّها، وحديثها المتلاحق عن تبدّل أحوالهم، واتهامها الدائم له بأنه لا يستطيع إسعادها، فهو لم يحسب حساباً لمثل هذه الأيام.

عاد أدراجه إلى السوق، استعرض الملابس الرجالية، اكتشف أن ما طلبته زوجته من ملابس تخصه سوف يكلفه ثلث ما يحمله من نقود (70 ألفاً)، اكتفى بقميص وسروال وحذاء، دفع ثمنهما "35" ألفاً.

تحوّل إلى متاجر الألبسة النسائية، قرر تجاهل بعض طلباتها، اشترى بيجامة صيفية لها، وبعض الألبسة الداخلية.

انتقل إلى متجر الأقمشة واختصر ما طلبته إلى النصف، كان مجموع ما دفعه ثمن أقمشة وألبسة قد تجاوز "140" ألفاً.

تلمّس جيبه قبض على ما تبقى، اتجه إلى سوق الخضار، بضعة كيلو غرامات من التفاح والموز لضيوف زوجته، استهلكت "14" ألف ليرة.

اكتفى بمواد يحتاجها المنزل من أرز وعدس وعبوة زيت وعلبة سمن نباتي وكمية من السكر وكيلو شاي ونصف كيلو قهوة، هذه المواد لا تكاد تكفيه لأكثر من شهر.

فرغ جيبه. أحصى ما تبقى. اتجه إلى كراج الانطلاق، ركب الحافلة وعاد إلى حضن زوجته.

وضع ما جلبه من أمتعة، نظر في وجه زوجته منكسراً ذليلاً، استلقى على الأريكة الموضوعة أمام المنزل تحت شجرة التوت والعرق يتصبب منه.

قالت زوجته الحنون مستهجنة ومتسائلة بغضب "هذا كل ما جلبته، هل كان يستحق عناء الذهاب إلى المدينة"، وأخذت تهمهم بصوت منخفض، ويرتفع أحياناً ليطلق سيل شتائم، على زوجها وعلى نظام الأسد الذي أوصلهم إلى هذه الحالة، بينما هو يلاحقها بنظراته دون أن يتحرك أو ينطق.

غابت بضعة دقائق، نادت زوجها لكي يدخل من أجل تناول الغداء، نادت ونادت ونادت، بدأت بسيل شتائم واتجهت إلى الخارج.

خرجت من المنزل لتراه مستلقياً على الأريكة مغمض العينين، ويده مسترخية إلى الأسفل، نادته، "أبو جعفر، أبو جعفر"، لم يجبها اقتربت منه، هزّته من كتفه، وأطلقت صرخة سمعها كل أهالي القرية.

ترك تعليق

التعليق