"نباشو القمامة".. بين إعلام النظام، وأرض الواقع


بعد تسع سنوات من الحرب، ونصف قرن من استلاب حقوق السوريين وثرواتهم، يجد النظام ضالته في فقراء البلاد الممزقة ليحملهم مسؤولية ما يحصل من خراب، وهم المتآمرون والخونة ومدمرو الاقتصاد الصلب، والذين وضعوا أيديهم بيد الغزاة مقابل حفنة دولارات.

آخر اتهامات مؤسسات النظام هي تحميل من أسمتهم جريدة حكومته (تشرين) بـ(نباشو القمامة) الذين ينشرون الأوبئة والأمراض التي تفتك بالمواطن، ووفق العنوان العريض يساهمون في إرهاق عمال النظافة، وأما القنابل والكيماوي ومخلفات الصواريخ وأكوام الزبالة وتفسخ جثث الأبرياء فلا دور لها في تلوث الهواء والماء وانتشار الأوبئة.

مزة 86.. تعاني

النكتة في التحقيق المبتذل الذي نشرته (تشرين) أنها أخذت "مزة 86"، كمثال، وهو الحي المخالف الذي تعاني منه العاصمة كونه مركزاً للمخالفات، وبؤرة توتر لم تستطع كل الحكومات المتعاقبة إيجاد حل لها، لأنه خزان النظام التشبيحي والأمني.

أضف إلى ذلك أن هذا الحي يعتبر أكبر منطقة مخالفات في العاصمة وربما في سوريا، وشهد في الآونة الأخيرة انهيارات كبيرة بسبب الأبنية المخالفة التي تبنى للاتجار بها، ويعاني من سوء التخديم ومخالفات استجرار المياه والكهرباء، ومع كل هذا يعاني من نباشي القمامة الذي يصفهم أحد من التقتهم الجريدة: "نعاني كثيراً من (نباشي) القمامة في حيِّنا الذين يخرجون الأكياس من الحاويات ويبدؤون بعثرة ما في داخلها من أوساخ وهذا ما يسبب انتشار الحشرات والفئران بشكل كبير ويعرض السكان للعديد من الأمراض".

من هم النباشون؟

مراهقون وأطفال ورجال مسنون هم من التقتهم الجريدة بصفتهم المسؤولين عن انتشار الأوبئة، والكل أجمع على أن هذا العمل يعيل الأسر التي ينتمون إليها، وهي عائلات كبيرة كما قال الطفل ذو السادسة عشر الذي اضطر لترك المدرسة والعمل لإعالة أسرته: "هذا العمل أفضل من السرقة وطرق الأبواب".

رجل آخر يبحث في القمامة على علب الكرتون والخردة التي يجني منها مالاً، وأكد للجريدة أنه العمل الوحيد الذي يدر عليه الرزق بالرغم من الروائح والأمراض الجلدية التي يتعرض لها نتيجة عملية النبش.


المتضررون

عمال نظافة ومواطنون دون تحديد أماكنهم، هم من يتعرضون لأذى النباشين. فالعمال يشكون من أنهم يعملون أكثر مما هو مطلوب منهم نتيجة نبش القمامة من الحاويات. وأما المواطنون فهم "الشخص الذي يقطن في مزة 86".

الغريب في الأمر أن هناك من بين العمال من اعترف بقيامه بنبش القمامة رغم معرفته بمخالفة التعليمات، وأنه يفعل ذلك لأن راتبة لا يتجاوز 38 ألف ليرة، وأنها تدر عليه ما يمكن أن يستر به عائلته من الفقر، فكيلو الخبز اليابس بـ 20 ليرة، والبلاستيك بـ 50 ليرة.

مظهر حضاري

مدير نظافة دمشق يرى أن هذه المهنة مخالفة لقانون النظافة رقم 49، وأعداد من يعملون بها كبيرة، وهم دون السن القانونية غالباً، وقال للجرية مهداً: "لا تعاطف أبداً مع (النباشين) لما تسببه هذه الظاهرة من أضرار كبيرة على الصحة وعلى المظهر الحضاري بشكل عام".

"اقتصاد".. يتحرى

وعبر رصد بسيط، سأل "اقتصاد" مجموعة من الأهالي حول نفس المعضلة، فجاءت أغلب الإجابات عكس ما تبنته جريدة (الحكومة) في اتهامها لشريحة واسعة من السوريين، باتت تعيش من مخلفات القمامة.

(سمير. م) مواطن من ريف دمشق الغربي، قال لنا: "هؤلاء يعيشون من البحث عما يمكن بيعه وهم منتشرون في كل الريف، وجميعهم مواطنون لا يملكون عملاً واضطروا للبحث في القمامة عن علب الكولا والبلاستيك التي يبيعونها بأسعار رخيصة، وهو عمل يحتاج لجهد كبير".

أما حول من هم هؤلاء ولأي فئات ينتمون ومن أوصلهم إلى ما هم عليه، فواقع الحال يجيب.. (محمد سيفو) مراهق، يقول: "أنا نازح من ريف ادلب، أعيل أسرة مؤلفة من أم وأربع إخوة، ووالدي مخطوف من خمس سنوات".

الجريدة التابعة للنظام قالت إن ما يبيعه أحد هؤلاء يصل إلى 2500- 3000 ليرة يومياً أي ما يعادل في الشهر راتب ثلاثة موظفين، فيما أغلب من التقيناهم يتحدثون عن مبالغ زهيدة لا تتعدى 200- 500 ليرة في اليوم الواحد.

حرب النظام

التسول والنبش في القمامة، وبقية قائمة الممنوعات التي ينبذها المجتمع، ليست بوافدة على السوريين، فمنذ أن حكم آل الأسد سوريا فاقموا فقر السوريين، وأرهقوهم. ولكن هذه الظواهر تعدت اليوم حالة الشذوذ، لتكون مشهداً اعتيادياً وكبيراً تراه في قلب العاصمة وبقية المحافظات بعد أن أوصلت الحرب التي شنها النظام، شريحة واسعة من السوريين، لحافة الفقر.

أما الضحايا الأهم، فهم الفقراء وأبناء النازحين واليتامى والمهجرين من بيوتهم ومدنهم، فيما يحملهم النظام مسؤولية الأوبئة وانتهاك المظهر الحضاري لبلادٍ، أنهكها الدمار.

ترك تعليق

التعليق