"تشيستر البريطانية" تتأخر عن "جامعة المحاصرين" في جنوب دمشق


في مسائيّةٍ مُميزةٍ بمدينة ادلب المُحرّرة "شمال سوريا" تجمع مُهجّرون من "منطقة جنوب دمشق". واتفق الحاضرون على إطفاء أجهزة الجوال حتّى لا تُشغلهم عن سمرهم، فأغلبهم قطعوا مسافاتٍ طويلة تصل إلى 140 كيلو متر من مدن كـ "الباب واعزاز وعفرين ومخيمي البل ودير بلوط - شمال حلب"، إلّا أنّ الخمسيني "أبو جواد" فتح جهازه ووقعت عيناه على خبرٍ عنوانه "ابتكر علماء في جامعة تشيستر طريقةً لتحويل البلاستيك إلى وقود"، ليسيطر الضحك عليه.

وسط ذهول الحاضرين من ضحكةٍ عفويةٍ لم يشهدوها منذ عامٍ كاملٍ اغرورقت عيني الخمسيني، ضرب الأرض بقوّة، كبح ضحكته قائلاً "لك يخرب بيتهم نحن اخترعنا من زمان وبريطانيا بيعلنوا الاختراع هلأ"، مُكملاً ضحكته التي سيطرت عليه.

مع استحكام الحصار الذي فرضه نظام الأسد والميليشيات الطائفية المساندة له، لأحياء "الحجر الأسود، التضامن، العسالي" وبلدات "يلدا، ببيلا، بيت سحم" و "مخيم اليرموك" مطلع العام 2013، ومنعها المواد الغذائية والدواء وشحنات الوقود عن المنطقة، لجأ المحاصرون إلى سبل بديلة لمواجهة الحصار مُستخدمين المحروقات الناتجة عن تدوير المواد البلاستيكية في تشغيل مولدات الكهرباء والمركبات.

تدوير المواد البلاستيكية وسط حصارٍ خانقٍ فكرة اقتُبست من مقاومة أهالي مدينة غزة الفلسطينية للحصار "الاسرائيلي"، وسُمّيت عملية تدوير البلاستيك في "جنوب دمشق والغوطة الشرقية" بـ "الحراقات"، بحسب ما قاله لـ "اقتصاد"، "أبو جواد".

وأضاف أنّ المحاصرين في مدينة غزّة استخدموا في إحدى المراحل "زيت الطعام" كـ "وقود للسيارات"، ولا يُمكن نسخ الطريقة في المناطق المحاصرة بسوريا بسبب ندرة المواد الغذائية بما فيها الزيوت.

وأشار أبو جواد أنّ عملية تكرير وتدوير البلاستيك كانت تبدأ بجمعه من المنازل المُدمرة أو شرائه، ومن ثُمّ الفرم، وبعدها إلى الجمع في برميل وتشغيل النار أسفله وغليه لساعات مع تقطير البُخار الناتج لاستخلاص البنزين والمازوت، وهذه المراحل تحتاج لحوالي سبع ساعات.

كان سعر المحروقات الناتجة عن تدوير البلاستيك آنذاك بين 250 و 800 ليرة سورية لليتر الواحد، ولها آثار سلبية على الصحة العامة والبيئة، كما لها خطورة كبيرة لانعدام عوامل الأمان والسلامة، بالإضافة إلى العمل بطرق بدائية، مما تسبب في إصابة العديد من العاملين بها جراء انفجار براميل التقطير، حتى أُطلق عليها مهنة الموت.

عامل سابق في تقطير البلاستيك قال لـ "اقتصاد" إنّ العاملين في ذات المجال كانوا يتنافسون فيما بينهم بالأسعار والجودة حالهم كحال شركات إنتاج المحروقات العالمية، حيث كانت أكثر المواد تُباع قبل الإنتاج.

وأضاف أنّ أغلب الإنتاج كان يتم مقايضته بمواد غذائية كانت مفقودة، فكيلو الأرز تجاوز حينها 100 دولار أمريكي، كما استطاع رواد المهنة تغطية حاجة المنطقة "مدنياً وعسكرياً" من غير الامتيازات التي تتمتع بها الجامعات والأكاديميات والشركات الكبرى. أمّا براءة الاختراع فقد حصلوا عليها من المحاصرين أنفسهم وتنديد المنظمات الدولية بالحصار دون تحرّك حقيقي وبلا انصاف.

تعد جامعة تشيستر أقدم المؤسسات التعليمية في بريطانيا حيث تأسست عام 1839، وركز خبراؤها مؤخراً على المواد التي لا يمكن إعادة تدويرها التي تستخدم في تغليف السلع الغذائية أو البلاستيك المرمي على الشواطئ، مُدّعين أنّ هذه هي المرة الأولى التي يصنع فيها الخبراء طريقة تستخدم جميع أنواع البلاستيك ولا تترك أي بقايا منه.

واستكمل الحاضرون سهرتهم بسرد تفاصيل الحصار الخانق الذي دام حتّى منتصف العام 2018 حيث تمّ تهجيرهم إلى مناطق الشمال السوري المُحرّر وفقاً لاتفاقٍ أُبرم بين "المعارضة السورية" و "الاحتلال الروسي".

لن أندهش إن أعلنت جامعة "اكسفورد" فوائد الخبز المصنوع من دون طحين أو الحلويات المصنوعة من دون سكر، قال أحدهم، وعبّر عن رأيه آخر، ما عاد مستبعداً أن تعلن جامعة عالمية أخرى فوائد العمليات الجراحية بلا تخديرٍ وبنج. أمّا أصغر الحاضرين وهو لم يعش تفاصيل الحصار، فكان رأيه أنّ جامعات الجائعين قد تكون أذكى وأجدى من الأكاديميين، وتساءل آخر، أيعقل أن تكتشف جامعة أخرى فوائد لنبات "رجل العصفورة" الذي لا تتناوله الحيوانات، أو ورق الصبار؟

أمّا الخمسيني الذي أثار الموضوع ختم السهرة قائلاً: "في الوقت الذي كان فيه نظام الأسد وحلفاؤه يحاولون القضاء على معاني الحياة لدى المحاصرين، وقتلهم أحياءً لتحقيق مكاسب سياسية وميدانية، كانوا هم يصنعون حياةً كريمةً من لا شيء رافضين الموت أحياء".

ترك تعليق

التعليق