آخر الدواء الكي.. أساليب غريبة في العلاج عند البدو
- بواسطة فارس الرفاعي- خاص - اقتصاد --
- 28 تشرين الاول 2018 --
- 0 تعليقات
ورثت البادية الكثير من أساليب العلاج الشعبي للأمراض، ولايزال العديد منها سائداً إلى الآن على امتداد البوادي العربية ومنها البادية السورية التي تنوعت فيها ألوان العلاج الشعبي بتنوع التضاريس والنباتات والأحياء وافتقاد المراكز الصحية أو عيادات الأطباء الذين يمكن اللجوء إليهم عند وقوع عارض صحي أو الإصابة بمرض ما.
وقد عُرف الطب البدوي منذ أزمان بعيدة كما وصفه ابن خلدون في مقدمته بقوله: "وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في أغلب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص يتداولونه على مشايخ الحي وعجائزه، وكان الطبيب البدوي يداوي بما لديه من التجربة والخبرة من غير الرجوع إلى قواعد ثابتة أو علم منظم. وكان الجاهليون لا يعرفون من وسائل التعقيم إلا إحماء السكين بالنار. وكانوا يداوون بالكي إنْ لم ينجح مع المريض علاج ما، ومنه شاع المثل السائر (آخر الدواء الكي)".
"ولعل اشتغال العرب الطويل في رعي الماشية قد باعد بينهم وبين طب الكهانة والخرافة وقارب بينهم وبين التجارب العلمية لأنهم راقبوا الحمل والولادة والنمو وما يتصل بها من الأطوار الحيوية، وشرَّحوا الأجسام وعرفوا مواقع الأعضاء منها وعرفوا عمل هذه الأعضاء في بنية الحيوان نحواً من المعرفة واقتربوا من الإصابة في تقليل المرض والشفاء"، كما يقول الكاتب عباس محمود العقاد في كتابه "أثر العرب في الحضارة الأوربية".
وتُعد أمراض البدو قليلة مقارنة بخشونة عيشهم، وذلك لوجود الهواء النقي والشمس المطهِّرة لأجسامهم، ولقلة ما يأكلون من الأطعمة المركّبة، ولمحافظتهم على العفاف، وعنايتهم بالزواج المبكر، ولقلة الهموم التي تساورهم.
ويداوي أهل البادية السورية مرضاهم بما تعلموه من أسلافهم من وصفات بدهونات وحشائش وكي وغيرها مثل "اللبخة" و" اللزقة".
وتبدو أساليبهم في العلاج غريبة وغير مألوفة عند غيرهم من أبناء الحواضر والمدن-كما يقول الباحث في شؤون البادية "حسن الخضير المقبل "لـ"اقتصاد"- مضيفاً أن البدو يطعمون مريض المفاصل مثلاً "لحم نسر" ويُشربونه من مرقه أو لحم الضبع، ويخيطون الجروح الخارجية ويغسلونها بمستحلب "بعر الحمير"، ويغلون البصل بالماء ويصفُّونه ويغسلون به الجروح ويطعمونه لدفع أذى الرائحة.
وعايش محدثنا -كما يقول– أساليب أخرى في علاج البدو، فهم يغلون السمن العربي ويدهنون به الجرح حتى يبرأ. ومن معتقداتهم العلاجية أن في بول "الوبر" شفاء لبعض الأمراض. و"الوبر" من الحيوانات البرية يعيش على ورق الشجر ونبات الربيع حجمه كحجم الأرنب لا ذيل له، وله أذنان قصيرتان، صوته ناعم وجلده-حسب معتقدات البدو- نافع لداء الريح الذي يصيب الظهر والأعصاب.
الهواء الجواني
ويعالج أهل البادية كسور العظم بالرد والتثبيت بجبيرة قوامها بياض البيض وطحين الشعير يُخلطان جيداً ثم يُمد المزيج على شرائح من القماش وتُلف بها منطقة الكسر. وكانوا يستخدمون مادة ملينة في حالة التيبس تُدعى" الهواء الجواني" قوامها مادة عشبية تُطبخ بالسمن العربي لتصبح كالمرهم ويمسدون بها المنطقة المتيبسة. وقد تُستخدم بعض الدهون في حالات الكسور مثل حب الرشاد أو"الثفاء" بعد خلطه مع صفار البيض. وتعالج الأمراض الجلدية باستخدام العقاقير المركّبة من الأعشاب المطبوخة بالزيت النقي يطلى بها وبالكبريت أيضاً، أما أمراض الفم فيتم علاجها بمواد تُطبخ على نار لتجف "منها مادة الشبة" و"الجنزارة" تُسحق لتصبح ذرات ناعمة تُفرك بها البثور في الفم يومياً حتى يُشفى المريض تماماً.
حصوة العجوز
ويستخدم البدو في علاج الجروح إضافة إلى ما ذُكر آنفاً نبتة فطرية بحجم حبة الجوز بريِّة المنشأ يصبح داخلها بعد الذبول أشبه ما يكون بالبودرة توضع على مكان الجرح فيبرأ كما يعتقدون، وتسمى تلك النبتة "حصوة العجوز".
ومن أشكال الطب البدوي في البادية السورية ما يسمى" العطبة" وهي عبارة عن لفافة قماشية تشبه السيجارة تُشعل وتوضع في مكان الألم فتخترق الجلد بعد اشتعالها ويُسمع للجلد صوت حين تخترقه العطبة فيقال" لقد طق الجلد" وهذا دليل على اختراق النار للجلد من خلال هذه العطبة.
آخر الدواء الكي
من أكثر أساليب التطبب لدى سكان البادية السورية "الكي" الذي يستخدم في علاج الكثير من الأمراض كوجع الأذنين والفالج والصرع واسترخاء جفن العين وأمراض الرئة وضيق الصدر والسعال وعرق النسا وعلاج الآكلة "الغرغرينا" والنزيف الدموي... إلخ.
ولا تزال بعض المجتمعات البدوية تلجأ إلى الكي بشكله التقليدي القديم لعلاج العديد من الأمراض ولمعالجة التهاب اللوز أو "بنات الأذنين" -كما تُسمى واللهاة- كأن يؤتى بقطعة حديدة أشبه بسيخ الشواء لكنها أرفع منه تسمى "ردينة" لها قبضة خشبية تُحمى على النار فتُكوى بها جبهة المريض أو أسفل جمجمة الرأس من الخلف.
ويروي "حسن الجدعان" من مدينة تدمر لـ" اقتصاد" تجربة أليمة مع الكي تعرض لها في طفولته المبكرة حيث ذهبت به أمه عندما عجزت عن علاجه إلى أحد المتخصصين بالكي في بادية حمص وقام-كما يقول- بكيِّه أكثر من خمس كيِّات في أنحاء مختلفة من رأسه وخلف رقبته وبين كتفيه ولا زالت آثار هذه الكيِّات ظاهرة على جسده رغم مرور أكثر من أربعين سنة على عملية الكي.
ومن الأماكن التي تُكوى لدى البدو الرأس عندما يكون الألم فيه، حيث يتم حلق شعر الرأس تماماً ثم يُكوى الجلد إلى أن يبلغ العظم وذلك بمكوى نوى الزيتون ثم يترك الجرح مفتوحاً ويعالج بما يدمله. وفي حالة الخوف من الجذام يجري الكي في خمسة مواضع هي مقدمة الرأس والثالثة أسفل الأولى وخلف النقرة وكيتان خلف الأذن وواحدة تحت الإبط، حيث يستلقي المريض على الجانب الصحيح ويُمد الجلد الذي في الموضع ويُكوى بمكواة طويلة مستطيلة كما يُكوى أصل الكتف، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي في الحديث الشريف الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون".
ومن عالم الطبابة الشعبية لدى البدو برزت مهنة "الكحالين" الذين كان لهم مكانة خاصة في المجتمعات البدوية قديماً، وإلى عهد قريب يقصدهم الناس فيضعون لهم القطرات ويستخرجون الأجسام الغريبة، ويعالجون الرمد والتراخوما. وكانت هناك كثرة من النساء في البادية السورية يهتممن باستخراج الأجسام الغريبة السطحية من القرنية والملتحمة في العيون الملتهبة وتحت الجفن بألسنتهن، ونزع الرموش المقلوبة والشعرات بالملقط، يفعلن ذلك مجاناً في بعض الأحيان ويتقاضين مبلغاً من المال أحياناً أخرى.
التعليق