مهنٌ عمل فيها، فغذّت تجربته الروائية.. إضاءة على حياة "شيخ الرواية السورية"


بعد أن شغل الناس بإبداعه لعقود طويلة وبإشاعات موته خلال السنوات الماضية، أغمض الروائي السوري "حنا مينة" عينيه في دمشق عصر "الثلاثاء" عن عمر ناهز الـ 94، تاركاً إرثاً إبداعياً تنوّع بين الرواية والقصة والمقالة. وعلى خلاف غيره يكاد هذا الروائي الذي يلقبه الكثيرون بـ"شيخ الرواية السورية" أن يكون من أكثر الأدباء العرب الذين مارسوا مهناً أبعد ما تكون عن الكتابة والفن في بداياته، وقبل أن تدركه "حرفة الأدب" ومثل غيره من الأدباء السوريين ذوي الأصول الريفية انحدر إلى قاع المدينة في الأربعينات من القرن الماضي، واضطر أن يزاول أعمالاً شاقة أحياناً لكسب كفاف يومه بعرق الجبين قبل أن يسير في دروب الشهرة ويقطف ثمار النجاح بعد رحلة من العناء والمشقات.

ولد "حنا مينة" في لواء الإسكندرونة السليب في التاسع من آذار عام 1924 في كنف أسرة فقيرة، عانى مرارة الفاقة واكتوى بعذاب التشرد، وتقلّب في مهن شتى، وخالط عمال البحر في الموانىء السورية وعمال التبغ وعمال الحفر والعاطلين عن العمل والمشردين، كما كابد مكابدة قاسية عالم السجون الأسود، وتوافرت لديه من ذلك كله تجربة غنية كان لها الدور الكبير في تفتح وعيه وانخراطه في دروب الكفاح والمعرفة مما انعكس على خطابه الروائي.

 وفي حوار أجراه كاتب هذه السطور مع مينة، منذ سنوات، أشار إلى أن المؤثرات والروافد التي أسهمت في تكوين تجربته الروائية كثيرة بعضها مستمد من الكتب وأكثرها من تجارب الحياة، وأضاف أنه تعلم من الناس منذ وعى الوجود ودفع ثمناً باهظاً لتلك الدروس التي تلقاها في جامعة الحياة.

 وكشف صاحب "المصابيح الزرق" في الحوار المذكور أن ما أفاده من قصص والده وحكايات الصيادين والبحارة وأبناء الشعب الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة والشوارع الخلفية، كان أضعاف ما تعلمه من الكتب و"سادة الثقافة المحترمين"، فهو لم يصف سوى ما رأى وعايش، ولم يكتب إلا عن التجارب الواقعية التي عرفها معرفة معاناة وكان صادقاً في كل ما خبره أو كتبه، "على مدى عمري كله ظلت حياتي في سعة تجاربها حديدة تصهرها الحياة في بوتقة بؤسها الشديد ثم تسقيها المعرفة المتحصلة من الكتب وهكذا (تفوّلذ) المعدن الذي منه تشكلت تجربتي الروائية".
 
كان مينة في العشرين من عمره عندما عمل حلاقاً في دكان صغير على باب ثكنة عسكرية بالقرب من البحر بعد أن اضطر لمغادرة مسقط رأسه في مدينة لواء اسكندرون، وكان زبائنه-كما قال-من الفقراء والبحارة الذين كانوا يروون على مسامعه قصصهم الأسطورية، وانعكست هذه الأجواء على الكثير من أعماله ومنها ثلاثية "حكاية بحار".

 وفي هذا السياق يروي الكاتب "رياض كامل" أن مينة عندما عاد إلى اللاذقية من جديد سنة 1939، وعاشر البحر عن قرب، وعاين حياة البحارة، وعمال الميناء، شهد آلامهم وآمالهم، رآهم يغتسلون بعرق الهم وهم يحملون على أكتافهم الأكياس والصناديق، فيما رب الميناء وأصحاب المواعين يغرقون في بحبوحة من العيش.

 ثم عمل صاحب "المصابيح الزرق" أجيراً في محل للدراجات، وعتالاً في المرفأ، وبحاراً على أحد المراكب الشراعية التي كانت تنطلق من اللاذقية إلى الإسكندرية.

 ونشر ضمن مجموعته القصصية، "الأبنوسة البيضاء" قصة بعنوان "على الأكياس" (1976) يتحدث فيها عن مرحلة صعبة جداً في حياته تعود إلى بداية مراهقته، حين بدأ يعمل حمالاً في الميناء ثم كاتباً صغيراً.
 
وعلاوة على ممارسته للمهن المتعددة في بداياته المبكرة اتجه مينة لوصف أصحاب المهن اليدوية والشعبية وصفاً دقيقاً طافحاً بالتجاوز، ومنهم البائع المتجول، وناقل الحجارة، وبائع الكاز والكازوز والخبز والكعك وماسح الأحذية، ومن لا عمل له والاسكافي، والخياط، والخبّاز، والحلّاق، واللحّام، والموظّف الصغير.

وكما شغل صاحب رواية " الياطر" قراءه برواياته خلال حياته شغلهم بإشاعات موته في السنوات الماضية، وفي كل مرة كانت ابنته "آمال مينة" تبادر لنفي الخبر حتى أنه وضع وصيته التي قال فيها: "عندما ألفظ النفس الأخير، آمل وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي".

و من أبرز أعمال الكاتب الراحل التي تجاوزت الـ 40 رواية، وتحول العديد منها إلى أعمال درامية وسينمائية، رواية "الثلج يأتى من النافذة"، و"المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة"، و"الياطر"، و"الأبنوسة البيضاء"، و"حكاية بحار"، و"نهاية رجل شجاع" التي تم تحويلها إلى مسلسل يحمل نفس الإسم-و"الشمس في يوم غائم" و"بقايا صور" اللتين حولتا أيضاً إلى فيلمين سينمائيين.

ترك تعليق

التعليق