"الحميس" و"البجارية".. طبخات تراثية مازالت حاضرة بالجزيرة، رغم صعوبة الظروف


رغم معاناته من أمراض القلب والضغط وتحذير الأطباء له من تناول الأغذية الدسمة، فإن السبعيني "ملا عمر" سارع لتلبية دعوة جاره "محمد العبود" لتناول وجبة "حميس بكارة" على الإفطار الرمضاني، مؤكداً أن هذه الطبخة الدسمة للغاية أفضل ما يمكن تقديمه في المناسبات، لكنها اختفت عن موائد المآدب نتيجة ظروف الحرب والغلاء المصاحب لها، مع تردي الأوضاع الاقتصادية للناس.

طوال سبعة عقود مرت من عمره، كان "ملا عمر" يحضر مآدب الطعام الرمضانية وولائم الأعراس بحكم أنه قارئ لـ "المولد النبوي" سواء لدى عائلته أو لدى أقربائه ومعارفه بمنطقة جبل عبد العزيز، موطن عشيرة "بكارة الجبل"، التي أخذت اسمها كما أعطت طبخة "حميس البكارة" اسمها. وتقع المنطقة المشار إليها جنوبي غرب مدينة الحسكة.

أكلة "الحميس" تُقدَم بشكل أساسي في الأفراح والأتراح واجتماعات الصلح مع الخصوم والزيارات الهامة أيضاً، ويُستقبل الشابُ من أحبائه وأصدقائه بجملة تؤكد أن هذه الأكلة تستفرد بمكانة لا تضاهيها فيها أي أكلة أخرى لدى السكان، حين يقال للشاب: "متى تتزوج لنأكل الحميس"؟!.

"حميس البكارة" يصنع عبر طبخ اللحم بالدهنة ويضاف السمن في منتصف الطبخ بدون إضافة ماء نهائياً حتى يستوي هكذا، لذا يأكله البعض مع الخاثر (اللبن) لتخفيف حدَّة الدسم، لكن "الملا عمر" يرفع قطع اللحم من الدهن على خبزه قبل تناولها لتخفيف كمية الدسم في لقمته.

ولدى عشائر البكارة وجبات طعام مشهورة أخرى لإكرام الضيوف في المناسبات والزيارات منها أكلة "البجارية" المعروفة بدير الزور، وتطبخ قطع اللحم مع ماء يغطيها حتى الفوران ثم يوضع بصل كامل أو مقطع مع بعض المنكهات التي تختلف من منطقة لأخرى.

 ويستمر طبخ لحم "البجارية" على نار هادئة حتى ينضج ويقترب الماء معه من الجفاف، فيصفى "اللحم" ليطبخ لوحده مع السمن العربي بهدف إكسابه لون الطبخة الخاص والبريق فوق قطع اللحم الداكنة ثم يعاد ليطبخ مع المرق من جديد ويملح، وهكذا تكون البجارية جاهزة للتقديم فوق أرغفة الصاج الكاملة، والتي يفوق اتساعها أحياناً الصينية ذاتها، وهذا ما يميز هذه الطبخة عن الثريد الذي يقطع فيه الخبز لقطع صغيرة.

"أكلة البجارية" اعتبرها أحمد وصفي زكريا، في كتابة عشائر الشام، من أشهر ما أضافته قبيلة "البقارة" إلى تراث منطقة الفرات والجزيرة، وهي واحدة من أعرق المأكولات في منطقة الفرات قبل انتشار المأكولات الحديثة، حتى أصبحت من المأكولات التي تفتخر بتقديمها القبائل الأخرى.

تنسب أكلة "البجارية" و"حميس البكارة" لعشائر قبيلة البكارة المنتشرة بدير الزور وريفها الغربي إلى ما بعد الحدود التركية مروراً بريف الحسكة الغربي، وتطبخان غالباً في قدور كبيرة تلائم حجم الذبائح على نار الحطب، وتقدمان للضيوف على مدار أيام السنة في الجزيرة السورية على وجبتي "الغداء" و"العشاء" مع اللبن والبصل الأخضر والفليفلة، أمّا في شهر رمضان فيقدم قبلها التمر و"الجريعة" (العيران).

يمكن إدراك تغير أحول سكان الجزيرة بين الماضي والحاضر، إذ أعلمنا "ملا عمر" أنه حينما طفلاً، كان رأس الغنم يباع بين 30 -70 ليرة بينما يكلف حالياً 30 – 70 ألف ليرة على الأقل حسب حجمه ونوعه (ذكر-أنثى)، هذا قد يفسر تراجع عدد رؤوس الغنم المذبوحة أو حتى التحول إلى طبخ أكلات أخرى غير مكلفة، في حين كان والد العريس يذبح بين 4- 30 رأساً من الغنم في يومي "الحنة" و"صُبحة" ابنه (يوم الزفاف)، فترى الشباب يتعاضدون ليلاً أو صباحاً لذبح الشياه وسلخها ثم تقطيعها قطعاً بحجم القبضة تقريباً بعد تكسير العظام الكبيرة لتكون جاهزة للطبخ صباحاً، "حميس" أو "بجارية" أو غيرهما، حسب قرار المسؤول عن الحفل أو عن الطبخ وعادة ما يكون رجلاً.

حلت محل هذه الطبخات الشهيرة طبخات تعتمد على الفروج الأقل تكلفة، لأن طبخات "الحميس" وأخواتها باتت صعبة المنال بعد سنوات عجاف كانت جزيرة الفراتين ساحة لأعنف المعارك، فاليوم سعر اللحم لدى الجزار 3500 ليرة سورية بينما وصل سعره القائم (حي) 1500 ليرة سورية، لذا توجه الناس إلى لحم الفروج لمحاكاة طبختي "المنقوصة" و "البجارية" بربع التكلفة تقريباً.

ترك تعليق

التعليق