أزمة الليرة التركية.. لماذا؟، وماذا بعد؟


إنّ المتابع للواقع التركي يجد أنّ تركيا تمرّ بمرحلة حرجة من النّاحية السّياسية والاقتصادية، وما تعيشه تركيا الآن من تراجع في سعر صرف الليرة التركية هو أحد عناصر هذه الأزمة.

وفي هذا التقرير لا بد لنا أن نجيب عن الأسئلة الآتية:
1 ـ ما هو سبب الانخفاض الحاد في سعر صرف الليرة التركية؟!
2 ـ ما هي طرق العلاج لانخفاض سعر صرف الليرة التركية في الفترة القصيرة؟!
3 ـ ما مدى قوّة الاقتصاد التركي وقدرته على الخروج من الأزمة على المدى المتوسط والطويل؟!

السؤال الأوّل:

يعود سبب انخفاض سعر صرف الليرة التركية إلى مجموعتين من العوامل:
أولاً ـ العوامل الداخلية.
ثانياً ـ العوامل الخارجية.

ولنبدأ بتحليل هذه العوامل:

أولاً ـ العوامل الداخلية:

ويمكن حصر أهم العوامل الداخلية بالآتي:

1ـ سعر الفائدة:

إنّ السّياسة الاقتصادية لحكومة العدالة والتنمية، تعتمد على تغليب الاهتمام بالاقتصاد الحقيقي (العيني) وليس النقدي، أي تعتمد على تنشيط وتعظيم اقتصاد السلع والخدمات في تركيا، وتعتبره مقدّماً على الاقتصاد النقدي، ومن هنا تتبع الحكومة كل السّبل والوسائل المالية والنقدية التي تشجع الاستثمار الحقيقي في قطاعي السلع والخدمات، ومن هنا كانت السياسة النقدية للحكومة أن تسعى دوماً إلى تخفيض سعر الفائدة، والسيد أردوغان نفسه يتبنى هذه السياسة لتخفيض سعر الفائدة، وذلك عكس البنك المركزي التركي الذي يتبنى سياسة رفع سعر الفائدة.

وهذه السياسة هي سياسة رشيدة؛ لأنها تبني الاقتصاد التركي بشكل حقيقي، وتدخله في طور البلدان المتقدّمة صناعياً، وتجعل من تركيا في المستقبل بلداً يعتمد على ذاته، ويصبح مؤثراً في الحياة الاقتصادية والسياسية الدولية. ونشير إلى أنّ هذه السياسة تحتاج إلى مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية التي تساندها.

لكن ما هو أثر تخفيض أو رفع سعر الفائدة على الاقتصاد التركي وسعر الصرف؟!

•    إنّ تخفيض سعر الفائدة يجعل رجال الأعمال والمواطنين يحجمون عن وضع الأموال في المصارف، وهذا يعني:
ـ زيادة كتلة النقود الذي يؤدي إلى انخفاض سعر صرف الليرة أمام الدولار.
ـ زيادة الاستثمار الحقيقي في الاقتصاد: فرجال الأعمال، وكل من يريد الربح، يصبح من مصلحتهم الاستثمار وليس وضع الأموال في المصارف لأنّ سعر الفائدة منخفض.
ـ تشجيع الصادرات.

وحتى نتلافى انخفاض سعر الصرف في هذه السياسة، يجب أن تمتص الاستثمارات كل الزيادة في السّيولة النقدية.

وما حصل في تركيا أنّ الاستثمارات لم تصل بعد إلى امتصاص الزيادة النقدية؛ مما قاد إلى انخفاض مستمر في سعر صرف الليرة التركية وعلى مدى السنوات الماضية.

وعندما بدأ سعر الصرف ينخفض بدأ بعض رجال الأعمال والمواطنون والكثير من مناهضي سياسة حزب العدالة والتنمية بالإقبال على شراء الدولار خشية فقدان ثرواتهم بسبب انخفاض سعر صرف الليرة؛ وبعضهم بسبب إظهار الفشل في سياسة حزب العدالة والتنمية من الناحية الاقتصادية، الأمر الذي بدأ يسارع من انخفاض قيمة الليرة التركية في الأشهر الأخيرة.

•    أما رفع سعر الفائدة فإنّه يعني:

ـ إقبال أصحاب الأموال إلى إيداع أموالهم في المصارف؛ طمعاً بارتفاع سعر الفائدة الذي يحقق لهم مزيداً من الأرباح.
ـ إيداع الأموال في المصارف يجعل الكتلة النقدية في الأسواق قليلة؛ مما يساعد في ارتفاع سعر صرف العملة.
ـ تقليل رغبة الاستثمار في الاقتصاد العيني (الحقيقي: سلع وخدمات).

وفي تركيا كانت الحكومة ترفض رفع سعر الفائدة؛ لأنّ رفعه سوف يقلل الاستثمار الحقيقي في تركيا، وبالتالي عدم رفع سعر الفائدة ساعد على انخفاض قيمة الليرة التركية.

وتضخيم الإعلام للخلاف المزعوم بين أردوغان والمصرف المركزي من حيث السياسة النقدية، جعل السوق النقدي يميل إلى انخفاض مستمر في سعر صرف الليرة أمام الدولار.

2 ـ اختلال الميزان التجاري التركي:

إن توازن الميزان التجاري يحافظ على استقرار سعر صرف العملة، وما نلاحظه في تركيا هو عدم التوازن، فنجد نمواً سنوياً للصادرات التركية، ونمواً أكبر للواردات، وهذا يعني اختلالاً في ميزان التجاري لصالح الواردات.

وبشكل عام زيادة الصادرات ترفع من سعر الصرف، وزيادة الواردات تخفض سعر الصرف، وهذا ما يحصل في تركيا؛ حيث زيادة الواردات تساعد على تخفيض سعر صرف الليرة التركية.

3 ـ الدين العام:
 
بشكل عام، زيادة الدين العام تقود إلى تراجع أسعار الصرف، وبالنسبة إلى تركيا تصل نسبة الديون إلى 32% من الناتج المحلي حسب المصادر الحكومية، وإلى 42% حسب المعارضة ومؤسسات الائتمان العالمية، لكن هذا الرقم طبيعي قياساً على الاقتصاديات العالمية، وتركيا تعتبر أفضل من معظم دول الاتحاد الأوروبي في هذا المقياس بما فيها ألمانيا وفرنسا، حيث بلغت نسبة الدين العام في ألمانيا 82% على سبيل المثال.

لكن نجد أن نسبة الدين العام تتزايد في تركيا من سنة إلى أخرى، فكانت النسبة 28% عام 2016م ولذلك لا بد من مراعاة هذا الأمر في السياسة التركية على الرغم من الدور الإيجابي للديون التي تستغلها تركيا في مشاريعها الاستثمارية الناجحة.

4 ـ التطورات السياسية الداخلية التركية: من المعروف أنّ الاستقرار السياسي الداخلي في تركيا ليس على ما يرام، فحزب العدالة والتنمية يعاني من تحديات كبيرة، وكان منها الانقلاب الفاشل، وهذا يلعب دوراً كبيراً في تراجع سعر الصرف.

ثانياً ـ العوامل الخارجية:

إنّ النجاحات الكبيرة للاقتصاد التركي وعلى مدار 15 عاماً، والذي جعلها ضمن نادي الدول العشرين، وطموحها أن تكون ضمن الخمس الأولى منها.. هذا الأمر غير مرغوب عالمياً لدولة إسلامية يقودها حزب محسوب على الإسلاميين، وتركيا تعتبر قاطرة للدول الإسلامية، فنجاحها يقطر الدول الإسلامية، خاصة أن تركيا ذات تجربة تاريخية تمثلت بدورها السلجوقي والعثماني الذي قاد الأمة الإسلامية عبر قرون طويلة، فكانت الرائدة عالمياً ومن جميع النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية.

أمام هذه الحقيقة وقفت هذه الدول من أمريكا مروراً بأوروبا وصولاً إلى بعض الدول العربية، وقفت، لتحارب الاقتصاد التركي، وزاد الضغط قبل الانتخابات؛ كي تسقط مشروع أردوغان الإصلاحي، واختارت بحربها سعر صرف الليرة التركية للأسباب الآتية:

1 ـ سهولة هذه الوسيلة.
2 ـ تأثيرها على رجال الأعمال وبالتالي الاستثمار.
3 ـ هذه الوسيلة تؤثر على المواطنين مباشرة؛ لأنها تخفض الدخل الحقيقي للمواطن، من خلال ارتفاع الأسعار، وهذا يزيد نقمة المواطن على الحكومة الحالية؛ مما يساعد على سقوطها في الانتخابات المقبلة.
4 ـ أما الوسائل الأخرى الاقتصادية لمحاربة تركيا فيصعب استخدامها في الأوقات القصيرة، وتصطدم كذلك بقوّة الاقتصاد التركي.

واستخدمت القوى الخارجية الأساليب الآتية في محاربة سعر صرف الليرة التركية:

1 ـ تخفيض المؤسسات الدولية الائتمانية من التصنيف الائتماني لتركيا، وتعمدت أن يكون قبل الانتخابات.
2 ـ المضاربات في الداخل التركي: وتم ذلك من خلال إقدام شركات دولية على شراء الدولار بكميات كبيرة، ومهما كان سعره، هذا الأمر زاد من الطلب على الدولار؛ وهو يعني انخفاض بسعر صرف الليرة التركية، وكلّما زاد الطلب على الدولار، زاد سعره، وبنفس الوقت انخفض سعر صرف الليرة التركية.
وكانت وراء هذه المضاربات دول وشركات كبرى؛ لذلك كان لها التأثير الكبير الذي أحدث صدمة كبيرة بالاقتصاد التركي، وحتى أنّ المضاربات جرى قسم منها خارج تركيا.
3 ـ وسائل الإعلام العالمي هوّلت من وقع الصدمة، مما كان له أثر كبير على المستثمرين من أجل وقف الاستثمار؛ بل وتصفية بعض استثماراتهم، وهذا يساعد على تراجع سعر صرف الليرة. وكذلك المواطن التركي بدأ يُقبل على شراء الدولار نتيجة هذه الصدمة المصحوبة بإعلام كبير، وهذا ساعد ويساعد على خفض سعر صرف الليرة التركية.
4 ـ دعم الدول الخارجية لقسم من المعارضة التركية التي سعت وتسعى لمحاربة السياسة الاقتصادية لأردوغان، والتي ساعدت في زيادة هذه الأزمة من خلال أدوات عديدة.

وبالنتيجة اجتمعت العوامل الداخلية والخارجية لتجعل من سعر صرف الليرة التركية يتراجع ليقترب من 5 ليرة تركية مقابل الدولار الواحد، وكان هذا التراجع بطيئاً خلال السنوات السابقة، لكن العوامل الخارجية سارعت به كثيراً، ليصل التراجع خلال أقل من شهرين إلى 17% من قيمة الليرة التركية.

وهذا يقودنا إلى الجواب عن السؤال الثاني الذي يبين طرق العلاج لانخفاض سعر صرف الليرة التركية في الفترة القصيرة.

ـ السؤال الثاني:

في الفترة القصيرة التي تسبق الانتخابات، وللحد من تراجع سعر صرف الليرة التركية لا بدّ من الأخذ بالأمور الآتية:

1 ـ زيادة سعر الفائدة من قبل البنك المركزي التركي: وقد قام البنك المركزي بهذه الخطوة ورفع سعر الفائدة بمقدار 3% مما أدى إلى تحسن سعر صرف الليرة ليصل إلى 4.5 مقابل 1 $.
ويمكن زيادته مرة أخرى لكن بنسب مدروسة، حيث لا تكفي هذه الأداة لوحدها.

2 ـ الاستمرار بسياسة دعم الصادرات والسياحة التي تجلب الدولار إلى السوق التركية، مما يعوّض نقص الدولار بسبب المضاربات.

3 ـ طرح الدولار إلى الأسواق عن طريق البنك المركزي، ولكن بكميات مناسبة وبأوقات مدروسة.

4 ـ القيام بحملة إعلامية قوية جداً خاصة في الداخل التركي، حيث تركز هذه الحملة على التذكير بقوّة الاقتصاد التركي وقدرته على تجاوز الأزمة، وأنّ الاقتصاد له عدة مؤشرات على قوته، كمعدل النمو الاقتصادي، ونسبة البطالة، ومتوسط الدخل الفردي، والناتج القومي.. وهذه جيدة ومتزايدة في الاقتصاد التركي، هذه الحملة وظيفتها فضح الحملة الخارجية، وتعزيز ثقة الأتراك والمستثمرين الخارجيين في الاقتصاد التركي.. مما يقلل من تراجع سعر صرف الليرة التركية.

السؤال الثالث: ما مدى قوّة الاقتصاد التركي وقدرته على الخروج من الأزمة؟!

بالحقيقة على عكس ما يروّجه الإعلام العالمي والإقليمي وبعض مصادر الإعلام التركي، فإنّ الاقتصاد التركي هو اقتصاد قوي، ويمشي بخطوات متسارعة نحو المراكز الأولى عالمياً، ولا داعي أن نتحدث عن الأرقام والإحصائيات التي تبين نجاحه وتقدمه على مستوى العالم، فهي أرقام أصبحت مشهورة، لكن نذكر أنّ الاقتصاد التركي رغم أزمة العملة فإنّه مازال في تقدّم مستمر، وينافس الاقتصاديات العالمية، ويكفي أن نشير إلى أنّه في الربع الأوّل من عام 2018م كانت نسبة التنمية الاقتصادية 7,4% وهي المرتبة الثالثة عالمياً، وارتفع حجم الدخل السياحي 31,3% عن عام 2017م وازدادت الصادرات بنسبة 7,7% وازدادت نسبة الاستثمارات الأجنبية بنسبة 12% ، وانخفضت البطالة بنسبة 10%.

ولكن من حيث أزمة سعر الصرف نقول: لا يمكن في الفترة القصيرة إنهاء أزمة سعر الصرف لأنها ترتبط كذلك بعوامل سياسية تمر بها تركيا، وتتدخل بها قوى عالمية وعربية، لكن يكفي في الفترة القصيرة العودة بسعر الصرف إلى 4 ليرة مقابل الدولار، أو على الأقل إيقاف التراجع عند المستوى الحالي، ويعتبر هذا نجاحاً في المرحلة الحالية.

أما على المدي المتوسط والبعيد، وفي حال نجاح العدالة والتنمية في الانتخابات، فأمامها 5 سنوات من العمل بحرية، فهي تستطيع معالجة أزمة سعر الصرف، فتعالج العوامل الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها، خصوصاً وأنّ العوامل السياسية والخارجية سيضعف دورها.

وتستطيع السياسة الاقتصادية أن تحافظ على النهوض الاقتصادي الحقيقي الذي يتبناه أردوغان، وعلى مستوى مستقر من سعر الصرف، لكن من الطبيعي وفق هذه السياسة أن يوجد نسب قليلة من التضخم، وهذه النسب القليلة من التضخم موجودة في كل الاقتصاديات العالمية، خصوصاً التي تحقق معدلات نمو عالية، وتعتمد على التصدير.

وسنجد أن سعر صرف الليرة التركية سيتحسن بشكل واضح وكبير بعد الانتخابات وخلال السنة الأولى من حكم العدالة والتنمية في حال فوزه في الانتخابات.

ولكن على تركيا أن تنتبه في المستقبل على موضوع الاستثمارات الأجنبية في الداخل التركي، فعلى الرغم من أهمية الاستثمار الأجنبي، فإنه يعتبر كذلك سلاح بيد الدول الخارجية المستثمرة، خاصة الدول والشركات التي لها تأثير في البورصة التركية، وما تجريه تلك الشركات الأجنبية في تركيا في البورصة وسوق الاستثمار العيني، وكذلك تهديد بعض الدول بسحب استثماراتها من تركيا يدل دلالة واضحة على ما نقول.

ترك تعليق

التعليق