لوازم الجب العربي القديم في ريف حمص الشمالي


في ظل اشتداد الحصار وانقطاع الكهرباء والماء عن أهالي المناطق المحررة بريف حمص الشمالي، منذ أكثر من خمس سنوات، ومع ارتفاع سعر برميل المياه الواحد إلى أكثر من 500 ليرة بدون تكاليف تشغيل مولدة الكهرباء لضخ المياه، لجأ هؤلاء لاستثمار الآبار القديمة "الجباب" التي كانت مغلقة وعديمة الاستعمال منذ عشرات السنين، إذ لم يكن منزل في حمص وريفها يخلو من جب في باحة المنزل كان أصحابه ينضحون الماء منه بوسائل وأدوات عفا عنها الزمن الآن، كـ"المحالة" و"الحبل" و"السربس" و"الدلو"، ولكن هذه الأدوات أصبحت نسياً منسياً بعد دخول المياه إلى البيوت واضطرتهم الحرب للبحث عنها واستخدامها من جديد بعد قطع المياه عنهم من قبل النظام.


وقلما كان بيت في قرى سوريا ومدنها، أيام زمان، يخلو من فناء مكشوف كان القرويون يُطلقون عليه اسم "الحوش"، أما أهل المدن فيسمونه "أرض الديار". تتوزع فيه جِرار الماء وأباريق التنك مختلفة الأشكال والتصاميم و"شقف الزريعة" من نباتات عطرية وزينة وغيرها. وفي هذه الباحة السماوية كان من المعتاد أن ترى بئراً أو "جباً"، كما يصر على تسميته أهل القرى مركباً عليه "السربس" أو البكرة أو "الطرمبة"، فيما بعد، لنضح الماء من البئر بواسطة "دلو" كان يُدعى "القادوس" و"السربس" في العامية السورية-كما يقول الباحث عبد اللطيف السعيد لـ"اقتصاد"- وهو دولاب من الخشب يشبه دواليب عربات الكارو القديمة "العربات السوداء" التي لم يبق من ذكراها سوى الحنين إليها.



ويضيف الباحث السعيد أن هذا الدولاب المركب على "الجب" كان له محور يخترقه في نهايته ليستند على دعامتين هما عبارة عن خشبتين ضخمتين مغروزتين في الأرض وتنتهي كل من نهايتيه بأربع أذرع من الخشب صغيرة تدعى كل منها قبضة ويُربط بهذه الأذرع عوارض خشبية موازية لمحور السربس وفي إحداها-كما يقول- يربط الطرف السائب للحبل وفي الطرف الآخر للحبل يربط الدلو أو القادوس. يشد طالب الماء بيده اليمنى القبضة المقابل لها وعندما تصبح يده اليمنى في مستوى خصره تكون القبضة المقابلة ليده اليسرى قد أصبحت في متناولها فيشدها وهكذا تتناوب اليدان على إدارة "السربس" وفي خلال ذلك يلتف الحبل على محيط "السربس" فيرتفع القادوس، وعندما يصبح في مستوى اليد يتناوله بإحدى يديه ويفرغه في الوعاء المعد لملء جرة أو تنكة أو طنجرة أو أي وعاء آخر للاستعمال اليومي.


يوم لم تكن هناك برادات أو فريزات كان بعض القرويين وأهل المدن يستخدمون الجب كثلاجة لحفظ الطعام حيث كان "الطبيخ" الزائد عن وجبة العشاء يوضع في الدلو وهو فارغ ثم يُدلى مقدار قامة الرجل ويُثبت فيحفظه من الحشرات والنمل والذباب طوال الليل، وكان للجب العربي مشكلاته أيضاً مثلما لمياه الأنابيب اليوم مشكلاتها أيضاً، ولكن مشكلات الجب العربي كما يقول "محمد الخطيب" -أحد أبناء تلبيسة- لـ"اقتصاد"، سهلة التدبير ومنها أن يسقط الدلو في الجب إثر انقطاع الحبل أو أذن الدلو وعندئذ لابد من التفتيش عن رجل يمتهن هذه الحرفة ويُعرف بـ "أبو الكلاليب" لأن الجهاز الذي اعتاد على استعماله كان عبارة عن دائرة كاملة من الحديد عُلقت على محيطها عدة "خطاطيف" معدنية متدلية تسمى "القاشوشة" وللدائرة حلقة في وسطها يُربط بها حبل فيدلي "أبو الكلاليب" جهازه السحري المربوط بالحبل حتى يغطس في ماء البئر ثم يبدأ بتحريكه يمنة ويسرى أو بشكل دائري حتى تعلق الكلاليب بالدلو فينتشله، وقد يصادف أن يكون الدلو عالقاً بما يعوق سحبه فيتعرى "أبو الكلاليب" إلا من سرواله الداخلي - طبعاً - وينزل في البئر أو غيرها ولا يكتفي بسحبه من البئر بل يقوم أيضاً بنضح كمية من المياه يحددها بنفسه وقد تصل الأربعين دلواً أو أكثر حتى يطهر البئر ويصبح صالحاً للاستعمال، وكانت مهمة النضح من اختصاص نساء البيت غالباً.


 بعد دخول "الطرمبة"، وهي مضخة معدنية تُدار باليد ما زالت تستخدم في كثير من بيوت القرى السورية أحيلت "السرابس" و"الدلاء" و"القواشيش" و"حبال الجب" على المعاش وفقدت مهنة أبو الكلاليب المسكين أهميتها بعد أن كان بمقدوره أن "يشيل الزير من البير" كما يقولون، وتروي "أم حسن التلاوي" أن هناك طريقة كانت شائعة أيام زمان لتضخ المياه من الجب، وتعتمد هذه الطريقة على "المحالة" وهي أداة دائرية من الحديد مثقوبة الوسط ويمر في هذا الثقب المحور المعدني فوق الجب وللمحالة "فرضة" لها حافتان يجري الحبل بينهما، ويكون للحبل طرفان الأول يربط الدلو والثاني سائب يُشد به الدلو لرفعه عن طريق إفراز الحبل فوق فرضة المحالة وينزل الدلو إلى أسفل "الجب" فيمتلئ بالماء وتسحب الحبل فتدور المحالة في الاتجاه العكسي، ويرتفع الدلو المملوء بالماء.


 واختفت هذه المظاهر منذ أكثر من أربعين سنة –بحسب محدثتنا– بعد دخول المياه البلدية إلى المنازل وانعدام الحاجة إلى وسائل ومستلزمات الجب العربي القديم.



ترك تعليق

التعليق