المياه الإقليمية السورية تتصحر بفعل قوارب الجرف.. قصة بدأت مع حافظ الأسد


لم يتوقع صيادو مدينة جبلة يوماً، أن يرموا شباكهم التي تبلغ كلفتها مئات الآلاف، في البحر، ويخرجونها خالية إلا من بعض السمكات التي لا تكفي وجبة طعام لإنسان جائع، بحسب مقطع فديو نُشر على صفحتهم الخاصة في "فيسبوك".. فكيف بصياد يشق الأمواج من الفجر بحثاً عن رزقه في في تلك المياه التي أصابها التصحر كما يصيب اليابسة.

وهو ما دعا بعض صيادي مدينة جبلة عبر صفحتهم، "صيادين ميناء جبلة jableh port fishermen، إلى دق ناقوس الخطر معلنين اختفاء الأسماك من ساحلهم بسبب قوارب الجرف التي تجرف كل ما تصادفه في طريقها من أسماك صغيرة وكبيرة، ولم يسلم منها حتى غذاء الأسماك وقاع البحر.

صرخات الصيادين سرعان ما لاقت استجابة إعلامية غير رسمية من إحدى الصفحات الإخبارية المحلية على "فيسبوك"، حمّلت عبرها المسؤولية لقوارب الجرف البحرية الضخمة التي تقوم بفلاحة أرض البحر من خلال شباك ناعمة تجرف بطريقها كل ما تصادفه أمامها من مرجان وأوكار الأسماك وبيوضها، منوهةً إلى أنه تم إيقاف العمل بتلك القوارب بموجب مرسوم صدر عام 1964، تبعه قرار آخر صدر عن وزير الزراعة في حكومة النظام عام 2004 يؤكد في مادته الأولى إلغاء الصيد بالشباك الجارفة ابتداء من العام 2004، وذلك لحماية التنوع الحيوي البحري وترشيد الصيد في المياه الإقليمية.

لكن تلك القوارب عادت للظهور مجدداً بسبب ماسمته الصفحة الموالية للنظام، "الأزمة السورية والفلتان الأمني والأخلاقي"، وخصوصاً بعد صدور قرار من وزير الزراعة قبل تسعة أشهر يقضي بالسماح لقارب واحد بالعمل لأغراض البحوث العلمية لكن القارب الواحد أصبح عدة قوارب تعمل لمصلحة بعض الأشخاص من المسؤولين والمتنفذين في النظام، وتقوم بجرف المياه ليلاً ونهاراً أمام أعين الصيادين الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً، إلا السكوت عن الواقع حتى طفح بهم الكيل وأصبح مصدر رزقهم ورزق عائلاتهم مهدداً بسبب تلك القوارب، وهو ما دفعهم للتحدث بصوت مرتفع مطالبين بفتح تحقيق فوري من من أعلى المستويات والاستماع إلى شكاوى الصيادين وإيقاف قوارب الجرف ومحاسبة الفاسدين والداعمين لهم "قبل فوات الأوان".


 وهجر الصيادون مراكبهم بسبب جارفات القاع التي منعت جميع دول العالم، ومن ضمنها سوريا، الصيد بها في الحيود الساحلية في ستينيات القرن الماضي، وفق ما أفاد به لـ "اقتصاد"، مصدر مطلع فضل عدم الكشف عن اسمه.

وأضاف المصدر أن أغلب الدول اشترطت أن يكون استعمال شباك الجرف القاعي بعيداً كفاية عن الشواطئ وعلى أعماق تتجاوز الـ 1000 متر. واستثنى الاتحاد السوفيتي السابق شواطئه من هذه القرارت مما أدى لفقر شديد في الثروة السمكية لديه.

أما عن وصول تلك القوارب إلى سوريا، تابع المصدر حديثه قائلاً ومفصلاً في الأمر، أنه وعند مطلع عام 1972 كانت المساحات المترامية الأطراف لسواحل الاتحاد السوفيتي هي الأفقر في العالم فيما يخص الأسماك والأحياء المائية, مما حدا بـ ليونيد بريجنيف وقتها إلى إصدار قرار يُحرّم فيه الجرف بالأماكن الشاطئية, والاتجاه نحو المياه المحاذية للمياه الدولية للجرف هناك، حينها كانت جرافات الاتحاد السوفيتي شبه متقادمة, والبعض منها يستطيع العمل في المياه الدولية وهذا ما تم, والبعض الآخر يحتاج إلى التقاعد وهذا ما تم. وبقيت بعد إعادة التطهير والعمرة سبعة لنشات جرف صغيرة بحالة لا بأس بها, ومعدة أصلاً فيما يخص حجمها وعتادها للصيد بالمياه الساحلية الأقرب للشاطئ، كونها صغيرة الحجم ولا تستطيع مقاومة أنواء وتيارات المياه الدولية. وهكذا, وبعد قرار بريجينيف، وجدت هذه اللنشات نفسها دون عمل.

الأمر الذي حدا بالمسؤولين السوفييت بحسب المصدر، إلى اقترح إهداء اللنشات إلى إحدى دول البلقان, لكن البلقانيين كانوا قد منعوا هذا النوع من الصيد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, مما حدا بالروس لتقديمها كهدية إلى كوبا, التي رفضتها بدورها، حتى دول أفريقيا الغربية التي كانت تصنف حينها كدول صديقة للماركسية رفضتها.

إلا أن سوريا التي كانت قد منعت أصلاً - منذ عام 1964 - الجرف بشباك القاع على الحيد الساحلي كله، قبلت الهدية مع برقية شكر من حافظ الأسد الى الدولة السوفيتية حكومة وشعباً, ومن يومها بدأت المصائب.

ومع وصول الهدية السوفيتية في مطلع عام 1973, تمت تهيئتها وإعادة تعميرها وتجهيزها بشباك مقساة منخلية الفتحات ومدعمة بالنايلون (ممنوعة دولياً), لتصبح جاهزة للإبحار والصيد الشاطئيين، وفي ربيع 1974 قامت بأولى رحلاتها لصالح الدولة السورية ممثلة بالمؤسسة العامة للأسماك والتي كان سبب إحداثها هو وصول تلك القوارب السبعة التي تم صرف الملايين على تأسيسها وتوظيف العاملين فيها والذين كانت غالبيتهم العظمى من الطائفة العلوية.

ومن يومها بدأت مشاكل البحر السوري مع أسماكه التي بدأت تشح رويداً حتى بلغت حد الخطر في منتصف ثمانينيات القرن دون أن يلتفت أحد من المسؤولين إلى هذه الخطورة , فلقد نجحت تلك الهدية السوفييتية وخلال عشر سنوات فقط بالتأثير على البيئة البحرية لشرق المتوسط برمته.

وختاماً، لفت محدثنا إلى أن أحد المحامين من مدينة جبلة كان قد قام برفع دعوى ممثلاً عن الصيادين في الثمانينيات ضد الصيد الجائر بالجرف برعاية مؤسسة الأسماك، وقد تم ربح الدعوى عام 1986 لكنها لم تنفذ قط، بل ظلت حبيسة أدراج مأمور التنفيذ إلى يومنا هذا.

ترك تعليق

التعليق