سوق العطور في دمشق.. لون بلا رائحة، أو رائحة تدوم لثوانٍ


يُواكب سوق العطور في العاصمة دمشق موجة غلاء الأسعار في المنتجات الغذائية والصناعية والتجارية والكمالية الترفيهية، حيث بلغ ارتفاع العطور الشعبية عشرين ضعفاً عما كانت عليه قبل عام 2011. وتشهد العطور "الأورجينال" الأصلية ارتفاعاً وصل لأكثر من أربعين ضعفاً حسب نوع وماركة العطر.

ولم تكن العطور في أسواق دمشق مُتعلقة بالمناسبات أو الأعياد، إنما كانت حاجة أساسيةً في سُلم الاحتياجات اليومية، إلّا أنّ الحرب التي فرضت آثارها شاملةً كُل مناحي الحياة، جعلت من المواطن السوري ينظر إلى العطور على أنّها سلعة استثنائية يُمكن التخلي عنها ببساطة، وفي أفضل الحالات يُمكن اقتنائها بالمناسبات إن لزم الأمر.

السيدة (ن – ق) صاحبة متجر لتحضير وبيع العطور في حي القصاع وسط دمشق صوّرت لـ "اقتصاد" حالة سوق العطور في الأحياء المُنظمة، مُؤكدةً أنّ العطور الشعبية ذات التحضير والتصنيع المحلي تحظى بـ 99% بالمائة من إجمالي المبيعات.

وأضافت، "مع تدهور الوضع الاقتصادي في سوريا وهجرة رجال الأعمال تراجعت حركة استيراد السلع الكمالية إلى البلاد وفي مُقدّمتها العطور، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ثمنها، حيث تبدأ أسعار العطور الأصلية ذات الماركات المشهورة بـ 100 دولار أمريكي، ونادراً ما تُشترى من الأسواق المحلية تخوفاً من التزوير والتقليد، ويتكبد مُقتنيها أجور التهريب عبر الحدود".
 
وفيما يتعلق بالعطور الشعبية التقليدية ذات التصنيع المحلي قالت إنّ تصنيعها يعتمد على المواد الكيميائية التي غالباً ما تُستخدم لتعطير مواد التنظيف، وسعرها أيضاً لا يُستهان به، وتنقسم إلى ثلاثة نُخب، أرخصها ثمناً يتراوح بين الـ 1500 ليرة سورية والـ 2000 ليرة لزجاجة حجمها 30 غرام مُعبأة يدوياً، تكفي لاستخدام شهر على أكبر تقدير، وكلما زاد الحجم زاد السعر، وكلما كان النخب أفضل والتركيز أكبر ارتفع السعر أكثر.

كان المصرف المركزي قبل العام 2011، الممول الأساسي لاستيراد السلع إلى سوريا ومنها العطور، لكنه ومنعاً لاستنزاف المزيد من القطع الأجنبي توقف عن تمويل المستوردات غير الأساسية تاركاً المجال لتمويلها من قبل التجار وعبر السوق السوداء، مما أدى إلى ارتفاع سعر العطور التقليدية الشعبية عشرين ضُعفاً، عشرة أضعاف نظراً لسعر الدولار وانخفاض الليرة السورية، وعشرة أُخرى نظراً لانعدام الاستيراد ونُدرة مكونات صناعتها في الأسواق.

وكانت العطور مادة أساسية بالنسبة لأفراد الأسرة السورية قبل عام 2011، ومنها ما يُصنّف بعطور صباحية ومسائية وصيفية وشتوية، وكانت سبيلاً ومدخلاً للحوار بين الناس يُعبّرون من خلال رائحتها وثباتها عن اختلاف أذواقهم تارةً، وتارةً يتبادلون النصائح فيما بينهم حول أذكى تركيبة وأفضل بائع مُركب للعطور.

وتعدّت العطور الكماليات في ظروف الحرب، فلا تستطيع السيدة (خ – س)، معلمة في ثانوية عامّة، أن تدّخر القليل من راتبها الشهري البالغ 22 ألف ليرة سورية، لتقتني بها زجاجة عطور نخب ثالث مُحضرةً يدوياً تكفيها لشهر كامل، وعزفت عن شراء العطور منذ أربعة سنوات بسبب ارتفاع سعرها بحسب ما قالت لـ "اقتصاد".
 
وتشتكي السيدة قلّة المال، وعدم قدرتها على مُساعدة زوجها في تأمين احتياجات منزلها الأساسية كالطعام وفواتير الكهرباء والمياه والهاتف الثابت.

وتقول إنّها مُقبلة على الاستغناء عن الجوال وأجور خدمة الانترنت المُرتفعة لتشتري لأبنائها الثلاثة مُستلزمات المدرسة من ألبسة وقرطاسية.
 
زوج السيدة (خ – س) يعمل في تصليح الأحذية ولا يتجاوز ما يجنيه من أرباح شهرياً 30 ألف ليرة، لتكون العطور خارج قاموس المُفردات اليومية بالنسبة لهذه الأسرة كحال الكثير من العائلات.

استخدام الباعة لمادة الكحول بنسبة عالية في تحضير زُجاجات العطور أزال عنها عبقها الذي من المُفترض أن تنثره بحسب السيد (ن – ح).
 
ويُضيف السيد أنه يُغامر بنفسه في شراء زُجاجة عطور يقول عنها البائع إنها نخب أول، لكن لا يتورط في تقديم مثل هذه الزجاجة هديةً لأحد، فهي لون بلا رائحة، أو رائحة لا تصمد لثوانٍ، ولا ينفي (ن – ح)  تخوفه من اقتناء عطور رخيصة الثمن لأنّها قد تُسبب الحساسية والالتهابات الجلدية.

وأكّد الكلام (ف – ش) بائع عطور في حي الزهور الشعبي، قائلاً، إنّ بعض الباعة يُضيفون نسبة كبيرة من الكحول ويخفضون ما يُقارب 25% من سعرها مُعتمدين على البيع الكثير والربح القليل، ويعتنون بالشكل الخارجي أكثر من المضمون.

لكن سوق العطور يشهد ركوداً كبيراً وما تبيعه المتاجر منذ خمسة أعوام لا يتعدى الـ 10% ممّا كانوا يبيعونه قبل عام 2011.

ولفت البائع أن المبيعات تشهد ارتفاعاً كبيراً في الأعياد وتصل إلى 600% من الأيام العادية التي غالباً ما يكون فيها الزبون ثابتاً، يتردد لشراء العطور مرةً كُل شهر.

وبحسب البائع فإنّ غالبية مُحضّري العطور والباعة توارثوا مهنتهم عن آبائهم، وهذا السبب الذي يدفعهم لعدم ترك المهنة أو التخلي عنها كُليّاً.

وبالرغم من السعر المُرتفع ونسبة الكحول الكبيرة لم يختلف الحال عند (ص – ق) الذي اعتاد اقتناء عطوره ذات الذكرى المُعينة في ذاكرته، فلا مجال للتخلي عنها على حد قوله.

مُضيفاً أنّ لاقتناء العطور رمزيةً خاصةً تُساعد أحياناً في تحسين المزاج، ولا يُمكنه تخيل لحظاته من دون رائحتها، ويُرجّح أنّ وضعه المادّي الجيد يُساعده في عدم تخليه عن هذه الخاصّية المزاجية.

بين التقليل من مصداقية مواصفات العطور، والتخوف من أن تكون سبباً في الحساسية الجلدية، وارتفاع ثمنها الذي يُبرره التجار ويستنكره المُستهلكون، يبقى الصراع على تأمين مُستلزمات الحياة اليومية يلقى اهتماماً أكبر من سكان العاصمة، وتبقى نظرة المواطنين للعطور على أنّها سلعة أو مادّة كمالية رفاهية، إن توفرت خيراً، وإن لم تتوفر فعطر المياه أذكى وأوفر.

ترك تعليق

التعليق