"صيد العصاري" يعود إلى ضفاف العاصي بعد 40 عاماً من اختفاء الأسماك


هجرت الأسماك بكافة أنواعها نهر العاصي منذ أكثر من أربعين عاماً، بعد أن أخذت المعامل التي أُنشئت على جانبيه تطرح سمومها التي تقدر بـ1,2 مليون م3 يومياً محملة بـ195 طن من الملوثات الكيميائية والمواد العضوية والبكتريا والجراثيم -بحسب إحصائيات محلية نُشرت قبل سنوات-.

 وبعد ست سنوات من توقف معامل الأسمدة في قطينة عن العمل، بسبب ظروف الحرب، لوحظ عودة الأسماك إلى النهر، وتمكّن عدد من أهالي بساتين حمص الملاصقة للنهر بجانب مطعم دوار المهندسين، منذ أيام، من اصطياد أنواع متعددة منها.


ورأى المهندس "سيف الدين الأتاسي"، خبير في البيئة والحياة الطبيعية في تصريح لـ"اقتصاد"، أن عودة المائية الطبيعية كالاشنيات والطحالب التي تضع عليها أمهات الأسماك بيوضها في كل ربيع إلى نهر العاصي، هو السبب في عودة الأسماك من الهجرة ونموها وتكاثرها بشكل طبيعي.

 ولفت الأتاسي إلى أن إنشاء المعامل الملوثة للبيئة بالإضافة إلى رمي مياه مجارير المدينة (حمص وحماة) في النهر، بدون معالجة، وعدم الاهتمام بالنظافة والنفايات البلدية ورميها بشكل عشوائي، كانت بداية التدهور لحياة النهر الطبيعية، وبالتالي هجرة الأسماك منه، مشيراً إلى أن النهر شهد سابقاً وجود أغلب أنواع الأسماك النهرية والمياه العذبة، ومنها (البلوط /السلور الكارب /المشط /المريانا).

 ولفت محدثنا إلى أن التلوث بالكبريت ومخلفات مصنع الأسمدة ورحبة الدبابات وأسيد البطاريات، وعدم الاهتمام الحكومي بالحياة البرية الطبيعية، كان له بالغ الأثر في موت الحياة الطبيعية للنهر، وكان يجب إنشاء بحيرات اصطناعية تربي الأسماك وتُرمى في النهر، ويُمنع الصيد في فترات محددة إلا تحت المراقبة، وأن تكون المياه جارية في البحيرات الاصطناعية، وتُقدم الأعلاف ذات الطبيعة النباتية وليس مخلفات المسالخ أو أي منشأ حيواني، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.

 وأكد الأتاسي أن الحرب أثرت على البشر والحجر، وليس النهر. فالحياة البرية في نهر العاصي ماتت فعلياً قبل اندلاع الحرب.

ولفت محدثنا إلى أن حل مشكلة تلوث العاصي تبدأ من نبعه في الهرمل بالأراضي اللبنانية، ولكن هذا بحاجة لدراسات وأخذ العينات من المياه من نهر العاصي من الهرمل والقصير وقطينة وحماة والغاب وجسر الشغور وصولاً لاسكندرونة.


صيد العصاري يا سمك بُني

لم يبق في ذاكرة الكاتب والإعلامي "عبد الرحمن عمار" سوى هذه الأغنية وهو يعيش منفياً وبعيداً عن مدينته القصير المتكئة على كتف العاصي والتي كان العاصي وطقوس صيد السمك فيه يمثلان جزءاً من نسيج الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأهلها.

واستعاد عمار لـ "قتصاد" ما كان يُسمى بـمصطلح "الخماسة" المعروف والسائد عند أهل القصير وغيرهم من القرى القريبة من نهر العاصي أيام الاستعمار الفرنسي. ويبين المصطلح –كما يقول- كيفية صيد السمك وضبطه ضمن حدود القانون، عبر حراس ودرك يجوبون شواطئ العاصي ذهاباً وإياباً، وليلاً ونهاراً، منعاً لأي صيد مخالف.


وتفصيل ذلك-كما يوضح- أن بعض المستثمرين "الخماسة" يقدمون عروضاً لحكومات ذلك الزمان من أجل صيد السمك في نهر العاصي لقاء مبلغ معين من المال، ومن يرسو عليه العرض، يصبح المخولَ في إدارة شؤون الصيد في المنطقة التي يتم تحديدها له. وهو بدوره يتفق مع الصيادين الذين يتخذون من الصيد مهنة لهم، بحيث يعطي لكل صياد خُمس ما يصيده فقط، وهو يأخذ الباقي، ويدفع للحكومة مستحقاتها. وعلى الأغلب كان الخمّاس يشتري حصة الصيادين ويبيعها في أسواق حمص وغيرها، ويترك لكل صياد رطلاً أو رطلين على الأكثر ليبيعها إلى عائلات القصير في الحي الذي يسكن فيه. ومن هنا أُطلق عليه "الخَمّاس". وجمعُه "الخَمّاسة".

 وأشار محدثنا إلى أن شبكة الصيد كانت الوسيلة الوحيدة لصيد السمك، وهي مؤلفة من خيوط قطنية متينة ومتشابكة وذات مساحة معروفة، وتنسج على شكل مثلث تقريباً، ويتركز في رأسه حبلة ليمسكها الصياد ويتحكم بالشبكة، بينما تحوي قاعدة المثلث المقوّس على قطع صغيرة من الرصاص تربط على الأطراف بحيث تكون المسافة بين القطعة والقطعة أقل من شبر، ومهمة هذه القطع الرصاصية هي تسهيل نزول الشبكة إلى قاع النهر، وحين يبدأ الصياد عمله يمسك الحبلة، ويرمي الشبكة بقوة إلى أبعد مدى، وبطريقة تدل على خبرة ومهارة، فتنفرش وسط النهر، ثم ترسو داخل الماء.

عمار أشار إلى أن أهل القصير عرفوا في العقود الماضية العديد من أنواع السمك في العاصي غير أن أكثرها هما "البني" الذي غنى له صباح فخري أغنيته الشهيرة " صيد العصاري"-وقت العصر- والترّيس ""السلمون"، ويتراوح وزن الفرخ منه بين نصف كيلو إلى الكيلين، وهو مرغوب وطيب المذاق، ويتم اصطياده في فصول السنة كلها، أما التريس فحجمه صغير ولا يزيد طول الفرخ عن شبر أو أقل، ولا يكبر أكثر من ذلك. إلا أن نوعاً من الأسماك، وهو "السلّور"، بدأ يظهر كثيراً في نهر العاصي في السنين الأولى من هذا القرن، وكثرته شكّلت ظاهرة غريبة ملفتة ويتجمع غالباً في المياه السطحية الضحلة وبين الغبّيط، أي النبات الذي يعيش في الماء قرب الشواطئ، لذلك كان صيد السلور سهلاً جداً، إلا أنه غير مرغوب للأكل. ولا ندري كيف تكاثر وانتشر، ويُعتقد أن بعض أصحاب المسامك القريبة من النهر، ربما قاموا بتربية هذا النوع، ثم بعد إهمال تلك المسامك تسرّب السلور إلى العاصي، وتكاثر حتى شكل تلك الظاهرة الغريبة.

وكان الصيادون وغير الصيادين يعرفون-كما يقول عمار- أماكن تواجد السمك وغالباً ما تكون في الزوايا العميقة من النهر، وفي المغائر المائية.

في بداية الخمسينات انتهى دور "الخمّاسة" وبعدها غاب القانون وأصبح الصيد عشوائياً دون ضوابط، وتراجعت أهمية الشِباك، لاسيما بعد أن دخلت على الخط وسائل صيد أخرى كالديناميت والأسلاك الكهربائية وحتى المواد الكيماوية الخاصة وهي أدوات إجرامية بحق، ومن المفروض أن يكون استخدامها ممنوعاً بحكم القانون لأنها تقتل السمك الكبير والصغير والمقمّط بالسرير- كما يقول المثل- لكن من يستخدم مثل هذه الأدوات لا يهتم بالقانون، بل يسخر منه ويدوس عليه. ومع الأيام والسنين والانفلات القانوني، انقرض سمك العاصي أو كاد.

ترك تعليق

التعليق