حرفي سوري ينقل مهنة تبييض الأواني إلى الأردن، ويشكو من كسادها


بالقرب من سوق الحسبة وسط مدينة المفرق (شمال الأردن)، بدا اللاجىء السوري "محمود عرابي" منشغلاً بتبييض أوانٍ معدنية من الألمنيوم طالها السواد بمادة النشادر لتعود جديدة كما كانت، وهي المهنة التي ورثها عن جده ووالده، وكانت إلى سنوات قليلة ماضية يعمل بها في سوق النحاسين وسط مدينة حمص واضطرته ظروف اللجوء إلى ممارستها من جديد ليحصّل من خلالها لقمة عيشه، رغم مردودها الضئيل بسبب انتفاء الحاجة لها.

وأمام محل عرابي الصغير تبدو بعض الأواني المنزلية كالطناجر والقدور والصحون والأباريق التي ينتظر أصحابها استلامها جديدة كما كانت، وبدا المبيض السوري وسط غمامة كثيفة من الدخان مقرفصاً أمام آنية كبيرة وهو يغط قطعة من القطن في مادة النشادر ويفرك النحاس الأسود عنها لتعود بيضاء لامعة كما كانت.

 وباتت هذه المهنة التي كان يزاولها حرفيون جوالون في القرى والأرياف وبعض أزقة المدن جزءاً من الذاكرة المنسية في العقود الأخيرة بعد دخول الأواني المعدنية من التيفال والبريستو والستيل.

وكان لمبيضي أيام زمان–كما يروي الثلاثيني عرابي لـ"اقتصاد"- موسم خاص يقع بين الصيف والخريف حيث يجوبون القرى والأرياف حاملين على ظهورهم عدة الشغل المؤلفة من الكورة–الكير-والمنفخة، وماء التوتياء والقصدير والقطن وينادون: مبيض ... مبيض، فتفتح الشبابيك والأبواب وتطل النساء، وفي لحظات تتجمع أواني النحاس من طناجر وصحون وحلل ضخمة ومصافٍ، ويبدأ المبيض-كما يقول عرابي- بحفر جورة في الأرض ثم يشعل ناره من الفحم أو حطب السنديان ويمسك بملقطه القطعة المراد تبييضها فيمررها فوق النار وهو جالس القرفصاء حتى يتحول النحاسَ إلى لون الذهب بواسطة النار، وعندها يغط المبيض القطن في النشادر ويفرك النحاس ثانية بالقصدير ثم يغسل الآنية بالماء ويضعها تحت أشعة الشمس لتجف.

وأشار عرابي إلى أنه ورث هذه المهنة القديمة عن والده وجده، وعمل فيها لسنوات طويلة في سوق النحاسين بحمص، وبعد لجوئه الى الأردن عام 2012، وعدم وجود عمل، لم يجد بداً من العودة إلى مهنته، واتخاذها وسيلة للعيش في ظل تخلي الجمعيات والمنظمات الإغاثية عن اللاجئين السوريين.

 وتابع محدثنا أنه تعلم هذه المهنة في السابق لكونها بسيطة وغير معقدة كغيرها من المهن لافتاً إلى أن "هذه المهنة لم يطرأ عليها الكثير من التغيير والشيء الوحيد الذي طرأ عليها هو استبدال الكير بنافخ على الكهرباء".

 وتعتمد مهنة المبيض–كما يشير محدثنا- على الجهد الشخصي ولا تحتاج إلى أدوات كثيرة أو مكلفة مادياً، وهو ما شجعه على العودة إليها.

 وأردف عرابي أن أغلب أبناء الجيل الجديد يعزفون عن تعلمها رغم بساطتها، لكونها مهنة بلا مستقبل، لافتاً إلى أن الإقبال على تبييض الأواني خفّ بدوره لأن الكثير من الناس لم يعودوا يملكون أوانِ نحاسية كما في الماضي، علاوة على اكتساح أواني البلاستيك والميلامين والستانلس والمعادن الخفيفة للأسواق والبيوت.

 ويعدد الحرفي القادم من حمص الأدوات التي يستخدمها في عملية التبييض وهي الملقط وآلة النفخ- الكير التي يصدر عنها الهواء لإشعال النار وتحمية الأواني، وكذلك القصدير الذي يعطي الوعاء اللمعة المطلوبة، بالإضافة إلى النشادر ووهى مادة نفّاذة بيضاء اللون توضع فيه القطنة بعد فرك الآنية من أجل تبريدها ومنع اشتعالها.

ويشكو محدثنا وهو يغط القطن في النشادر ويفرك آنية من النحاس الأسود، من قلة زبائنه وكساد المهنة مقارنة بما كان عليه الحال في حمص، وهذا ما انعكس على دخله الذي لا يكاد يكفي قوت يومه، أضف إلى ذلك-كما يقول- غلاء المواد الأولية وبخاصة القصدير مقارنة بما كانت عليه في سوريا.

 وكشف محدثنا أن أغلب من يقبلون على تبييض الأواني لديه الآن هم هواة التراث وبعض أهالي الريف ممن يملكون دلال قهوة وأباريق نحاسية أو بعض ممن يتوارثون الأواني النحاسية ويتخذونها كزينة في منازلهم، فيلجأون إلى تبييضها بفعل تأكسدها مع الزمن، وكذلك أصحاب محلات الحلويات والمطاعم الذين يمتلكون حللاً وأوان نحاسية يطالها التأكسد بفعل الاستخدام المستمر وتصبح بحاجة لتبييض بين الفينة والأخرى.

ترك تعليق

التعليق