العاصي.. من شريان حياة إلى نهر ميت


بعد أن كان نهر العاصي شريان الحياة بالنسبة لمدينة حمص فيما مضى، بات في السنوات الأخيرة بؤرة تلوث وأصبح أشبه بالنهر الميت الذي يعكس طبيعة الحياة المحيطة به بعد أن هجر الأهالي أماكن سكناهم بفعل الحرب والتهجير القسري الذي مورس عليهم من قبل نظام الأسد، واستخدمه نظام الأسد وسيلة لمعاقبة أهالي ريف حمص الشمالي الثائرين ضده في عام 2013 حين فتح سد قطينة بهدف إغراق المحاصيل الزراعية ومن ثم قام بعدها بإغلاقه مما أدى إلى جفاف هذه الأراضي.

ارتبط نهر العاصي بمدينة حمص في العقود الماضية ارتباط الأسورة بالمعصم. وعلى ضفافه كان "الحمصيون" يقيمون طقوسهم الدينية ويحتفلون بعيد "مايموماس"، ومن هنا أُطلق على جزء من النهر اسم "الميماس"، ومازال المكان الذي شهد ليالي أنس الشاعر المعروف "ديك الجن الحمصي" يُعرف إلى الآن بهذا الاسم. ويُقال أن سبب تسميته بـ"العاصي" تعود إلى أنه يجري من الجنوب الى الشمال بعكس الميل السائد في الطبقات الجيولوجية قاطعاً مسافة 571 كم، منها 46 كم في الأراضي اللبنانية والباقي في الأراضي السورية قبل أن يصب في البحر المتوسط، ليكون بذلك النهر الوحيد في منطقة بلاد الشام الذي يسلك اتجاهاً من الجنوب نحو الشمال.

أول ما يواجه نهر العاصي لدى دخوله مدينة حمص قادماً من منابعه في بعلبك –الهرمل تل أثري هو النبي مند، الذي يُعتقد أنه يضم أنقاض مملكة قادش القديمة التي شهدت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد المعركة الشهيرة بين المصريين والحثيين. وهي المعركة التي نقرأ وصفاً لها على جدران الأقصر في مصر.

يمضي النهر بالقرب من أطلال هذه المملكة البائدة وهو يضحك لاهياً. إنه يدرك خلوده أمام ما هو عابر في الزمان والمكان، وإلى الشمال على مسافة قريبة من قادش يلتقي النهر ببحيرة قطينة التي يسميها الجغرافيون والمؤرخون "بحيرة قادش"، وهي بحيرة اصطناعية يعود تاريخها إلى الألف الثانية قبل الميلاد، وبعد أن يدخل العاصي هذه البحيرة بقوة يخرج منها بعناد غريب، ويتابع طريقه شمالاً بعد تغلبه على عقبة البحيرة ويجري على منبسط بازلتي محاذياً مدينة حمص دون أن يعبر فيها، ثم يصل إلى الميماس وهو مكان للراحة والاستجمام وهو مشهور بجمال طبيعته وشجره وظلاله.

ويتغلغل العاصي بعد ذلك في وديان تنتهي به إلى مدينة الرستن حيث أُقيم عليه سد كبير دُعي بسد الرستن، ثم يتوجه بعده نحو الشمال الشرقي باتجاه المناطق الصحراوية التي كان يمكن أن يضيع فيها ولكن السلسلة الجبلية المسماة "جبل العلا" تقوم في طريقه لتقذف به نحو الغرب بحيث يأخذ طريقه حتى حماة، وخلال هذه المسيرة الطويلة تدير مياه نهر العاصي العديد من الطواحين الحجرية التي استفاد أبناء العاصي من طاقة المياه الحركية في تدويرها لطحن الحبوب دقيقاً والقمح المسلوق المجفف برغلاً، ويقارب عدد هذه الطواحين الثلاثين موزعة على مجراه ما بين دخوله أراضي المدينة وخروجه منها، وقد توقف اليوم القسم الأكبر من هذه الطواحين عن العمل فيما تهدم الباقي في السنوات التي سبقت الثورة، ومن هذه الطواحين "أم الرغيف" و"القصير" و"السخر"  و"تل النبي مند" و"السدة" و"الجديدة" و"الميماس الكبيرة" و "السبعة الحصوية" و "العاشق".

وشهد نهر العاصي في السنوات الأخيرة تغيرات بيئية كبيرة أثرت على طبيعته ووظيفته الإقتصادية وتحول إلى بؤرة من التلوث على صعيد التربة والهواء والماء وبلغ التلوث فيه خلال السنوات الأخيرة درجة خطيرة منذ أخذت المعامل الضخمة في الإنتاج وبخاصة تلك المعامل التي أٌنشئت على جانبي العاصي ومنها الشركة العامة للأسمدة ومحطة توليد الطاقة الكهربائية ومصفاة حمص والشركة العامة للسكر والشركة العامة للمصابغ والألبان والزيوت المعدنية والفوسفات والمسلخ ومعمل الإسمنت في الرستن بالإضافة إلى عشرات الورشات الصغيرة والمنطقة الصناعية التي كانت تستجر المياه من النهر وتقدر بـ1,2 مليون م3 يومياً وتطرح كمية مقدارها 900 ألف م3 يومياً محملة بـ195 طن من الملوثات الكيميائية والمواد العضوية والبكتريا والجراثيم -بحسب احصائيات محلية نُشرت قبل سنوات-.

 وتتمثل مصادر التلوث التي تبعثها هذه التجمعات الصناعية في التلوث الناتج عن الزيوت ومشتقاتها والتلوث الناتج عن المركبات السامة مثل المعادن الثقيلة (الرصاص - القصدير- النحاس- الحديد- التوتياء- الأنتموان- السيانيد- الكروم)...الخ. والتلوث بالمواد الكيميائية مثل مخلفات المصانع والأسمدة وغيرها. والتلوث البيولوجي الناتج عن تفسخ المركبات العضوية والتلوث الحاصل نتيجة صرف الأملاح غير العضوية. والتلوث الحراري نتيجة صرف مخلفات بدرجة حرارة عالية أو صرف مياه التبريد.

ويستعرض الباحث البيئي د. سعد الدين خرفان لـ"اقتصاد" جوانب من التغيرات التي طرأت على نهر العاصي مشيراً إلى أن "مشكلة التلوث في حوض العاصي بدأت أواسط الستينات، واتضحت بشكل كبير في السبعينات حيث أصبحت مياه النهر غير صالحة للشرب وتدهورت نوعيتها وأصبحت تحتاج إلى معالجة خاصة لاستخدامها في الصناعة، كما ماتت الثروة السمكية والعديد من الأحياء التي كانت تعيش في النهر، وأدى هذا إلى جعل العاصي نفسه مجرىً يشبه المجرور".

 وتابع محدثنا أن "مشكلة تلوث العاصي استفحلت أكثر في الثمانينات والتسعينات وبالذات بسبب شح الأمطار وموجة الجفاف التي تعرض لها القطر في أواسط الثمانينات والتسعينات أيضاً. أضف إلى ذلك حصول نقص في إمدادات المياه الصالحة للشرب لمدينتي حمص وحماه نتيجة التوسع السكاني وأيضاً لارتفاع مستوى المعيشة وشح الأمطار وثالثاً تلوث مياه النهر مما استدعى استجرار المياه من أعالي النهر وكل ذلك قلل من كميات المياه المتوفرة للري".

 ولفت .د خرفان إلى أن مشكلة تلوث نهر العاصي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مشكلة مستعصية على الحل رغم كل الإجراءات التي اتخذت بخصوصها سواء عن طريق مراقبة ومعالجة مياه الصرف الصحي والمدن والبلدات والقرى المتوضعة على مجرى نهر العاصي أو اعتماد الدارات المغلقة للمياه في الشركات أو إقامة شريط حماية للمصادر المائية.

ترك تعليق

التعليق