درعا.. نماذج من حياة المشقة والعذاب التي تعيشها أسر المُختفين قسراً


تحتضن باسمة طفلها ذي الأربعة أعوام، وتنظر إلى الأفق البعيد بترقب شديد، وكأنها تنتظر وصول شخص عزيز، وعدها بالحضور في هذا الوقت، فيما ينحني قاسم، طفلها الصغير، مشغولاً بلعبته دون أن يعرف ما يدور بخلد أمه، السيدة الثلاثينية التي أمضت بعض سنوات عمرها، في انتظار زوج لا تعرف مصيره، لكنها تصر في قرارة نفسها، على أنه لابد وأن يعود يوماً.

وتقول باسمة بحزن شديد، "لازلت على أمل بعودة زوجي الذي لا أعرف أين هو"، مشيرة إلى أن زوجها غسان، ذهب من بلدته في ريف درعا الأوسط إلى مدينة درعا، نهاية شهر آذار من عام 2013، لاستلام راتبه الشهري من شركة كهرباء درعا، لكنه لم يعد منذ ذلك الحين.

وأضافت: "كان عمر طفلي هذا أشهراً، وأخشى أن يكبر ويعيش يتيماً بلا أب"، لافتة إلى أنها سألت كل زملائه في العمل عنه، وكلهم أفادوا أنه استلم راتبه وخرج من دائرته، ولا يعرفوا إلى أين ذهب، لكنهم على يقين بأن جهة تابعة للنظام قد اعتقلته كما اعتقلت العديد من أبناء درعا، غيره. 

فيما تشير سماح، 25 عاماً، أنها لم تعد ترغب في الانتظار أكثر من ذلك، وأنها على استعداد للقبول بالارتباط بمن يتقدم لها للزواج إن كان مناسباً، حتى لو كانت ضرة على زوجة ثانية.

ولفتت سماح إلى أنها تزوجت من رائد قبل انطلاق الثورة بعام واحد، تاركة دراستها الجامعية على أمل أن تكملها في بيت الزوجية، لكن ما حصل أن زوجها رائد اختفى في بداية العام 2012، على أحد حواجز النظام، ولا أحد يعلم أين هو الآن، وبسبب انشغالها بالبحث عنه لم تستطع إكمال دراستها الجامعية، حيث خسرت زوجها ومستقبلها الدراسي معاً.

وأضافت: "بحثنا عنه كثيراً عن طريق بعض المحامين والوسطاء المقربين من النظام، لكن لم نصل إلى أية نتيجة أو أي خبر يفيدنا بأنه ميت أو حي"، مشيرة إلى أن أهل زوجها أنفقوا مبالغ كبيرة لمعرفة أي معلومة عنه، لكنهم لم يحصلوا على بغيتهم.

وقالت بحسرة: "لم أرزق منه بأطفال، ولا أعرف مصيره، لقد قتل غيابه كل مشاعري، لماذا أنتظر؟"، لافتة إلى أنها تطلقت قبل عدة أشهر من زوجها المختفي عن طريق إحدى المحاكم الشرعية، بسبب غيابه الطويل وعدم معرفة مكانه، وأنها تنتظر من يطرق بابها للزواج.

فيما أكدت نادرة، 27 عاماً، وهي نازحة من ريف دمشق إلى إحدى مخيمات درعا، أن زوجها السابق أصيب بحالة نفسية صعبة بعد خروجه من السجن، موضحة أنها وأهله وبعد مرور نحو سنتين على غيابه، تلقوا إشعاراً  من قبل سلطات النظام، يفيد بأن زوجها سامر توفي في إحدى المعتقلات، الأمر الذي دفعها بعد فترة من الانتظار، إلى الزواج من أخيه الأصغر، تحت ضغوط الأهل للعناية بطفليها الصغيرين، اللذين أنجبتهما من سامر.

لكن زوجها سامر ظهر بعد مرور عام ونصف على زواجها من أخيه، ليجد في حضنها طفل ثالث هو ابن أخيه، مشيرة إلى أنه رغم شرح ما حصل، إلا أن ذلك لم يخفف من وضعه النفسي، ولا من حالة العذاب التي تسببنا له بها، ما دفعه لترك البلد والهجرة إلى إحدى الدول الأوروبية، حيث يعيش هناك دون أن يتواصل منذ خروجه مع أي أحد من أهله.

فيما أكد الحاج أبو سمير، 67 عاماً، أن حياته وحياة أسرته انقلبت رأساً على عقب منذ اختفاء ابنه الثلاثيني محمد.

وقال: "لم يكن من المطلوبين أبداً، كما أنه لم يشترك بأي نشاط ثوري، والعذاب الأكبر أننا لا نعرف مكانه أو إن كان حياً أو ميتاً"، لافتاً إلى أنه خسر مبالغ كبيرة للوسطاء والمحامين خلال رحلة البحث عنه، لكن دون جدوى.

ودعا أبو سمير، الأهالي والمنظمات الإنسانية والحقوقية، إلى مساعدة أهالي المختفين، في الكشف عن مصير أبنائهم في المعتقلات والسجون السورية المعروفة والسرية منها.  

المحامي قاسم الحوراني، قال لـ "اقتصاد" إن الغياب القسري ظاهرة مستشرية في محافظة درعا، لاسيما في تلك المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، لافتاً إلى أن المواطن عندما يخرج من بيته لقضاء بعض حوائجه، بات يودع كل أفراد أسرته، لأن عدم عودته إليهم مرة أخرى، أمر وارد، في ظل هذه الفوضى التي تعيشها المحافظة، من انتشار للمسلحين والشبيحة إلى جانب قوات نظام الأسد. 

وأضاف أن "الغياب أو الاختفاء القسري ليس حكراً على الرجال فحسب، بل يطال النساء أيضاً ممن عُرفن بنشاطاتهن الثورية"،  مشيراً إلى أن محافظة درعا شهدت غياب مئات النساء على حواجز قوات النظام دون أن يعرف أحد مصيرهن أو أماكن تواجدهن.

وقال إن "الغياب القسري حسب المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الغياب القسري هو، الاعتقال أو الإخفاء أو الحجز أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد، يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها"، لافتاً إلى أن الاتفاقية اعتبرت الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية حسب المادة السابعة من اتفاقية روما المتعلقة بالجنايات الدولية.

ولفت إلى أن "الغياب القسري عدا عما يرافقه من ضغوط نفسية على أهل المختفي، يترافق مع الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، والتي من أبرزها فقدان الثقة ونظرة الريبة للنساء المختفيات، نتيجة ما يتعرضن له من أعمال انتقام وممارسات من قبل سلطات النظام، إضافة إلى ازدياد حالات الطلاق نتيجة عدم معرفة وضع المختفي أو مكان وجوده، يضاف إلى كل ذلك المصاعب الاقتصادية التي يفرضها الاختفاء القسري والاعتقال على أهل المختفي، وعلى أسرته، وخاصة عندما يكون المختفي هو المعيل الوحيد لأسرته، حيث يصبح مصير الأسرة في مهب الريح، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، أصبح يعاني منها معظم الشعب السوري، بسبب توقف العمل وحركة الإنتاج".

يشار إلى أن مئات الآلاف من السوريين يعيشون في ظلمات سجون نظام الأسد ومعتقلاته السرية، دون أن تنبري أي جهة إنسانية أو حقوقية فاعلة للمطالبة بهم، وما أشرنا له من لقاءات، ما هي إلا بعض نماذج من حياة المشقة والعذاب التي تعيشها الأسر، في ظل ظروف إنسانية واقتصادية، تزداد ضراوة مع كل فجر جديد.

ترك تعليق

التعليق