تحقيق - شكلت الهاجس الأكبر في مسيرة الحياة المتعبة.. كيف تأتي المحروقات إلى الشمال السوري؟


حين سأل معد التحقيق أهالي من بلدات مختلفة في إدلب عن أبرز المعوقات المعيشية التي تعكر صفو حياتهم وتسبب لهم القلق المستمر اشتكوا من الغلاء الكبير في الأسواق.

وعلى وجه التخصيص تحدث كثيرون عن الأزمة الكبيرة التي يعانون منها بسبب الصعود المستمر لأسعار أصناف ضرورية يحتاجونها بشكل ملح للغاية.

و طبعاً، تصدرت القائمة أنواع المحروقات من مازوت وبنزين وكاز - تُستخدم في التدفئة وتوليد الكهرباء ووقود لوسائل النقل.

هذه الإجابات قادت "اقتصاد" لتقصي معلومات موثوقة ومدقق فيها حول تجارة المحروقات في الشمال السوري بهدف تسليط مزيد من الأضواء حول ظاهرة الغلاء في الأصناف المذكورة، وأسباب هذه الظاهرة التي يشتكي منها أهالي محافظة إدلب البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة على أقل تقدير.

من أين تأتي المحروقات؟

يوضح تاجر المحروقات "لؤي" (اسم مستعار) طرق الحصول على المحروقات، "لدينا في إدلب سوقان رئيسيان للمحروقات سوق معارة وسوق معصران -  بلداتان في المحافظة - يأتي إلى هذه الأسواق صنفان من المازوت: النظامي ونحصل عليه عن طريق حماة، والمازوت المكرر ويأتي من مناطق سيطرة تنظيم الدولة، الموصل والرقة ودير الزور".


ويضيف لؤي الذي يعمل في تجارة المازوت والبنزين في إحدى بلدات إدلب، "كما يحصل التجار على مادة البنزين من مناطق النظام عبر نفس الطريق".

بالنسبة للغاز فيمكن الحصول على جراته المعبأة والتي تزن 24 كيلو من مناطق سيطرة النظام - عن طريق حماة أيضاً -.

بقي لدينا أن نشير إلى طريقة أخرى للحصول على كل من المازوت والبنزين والكاز وتتلخص في مادة الفيول وهو البترول الخام.

يأتي الفيول بصهاريج كبيرة من مناطق تنظيم الدولة ويفرغ أصحاب الحراقات - مصافي التكرير اليدوية - حمولة الصهاريج من المادة السوداء اللزجة في خزانات ثم يوقدون نفس المادة تحت الخزانات للحصول على حرارة عالية.

عملية معقدة قليلاً ينتهجها أصحاب هذه الورشات وهي خطيرة نوعاً ما، وفق شهادات أدلى بها عاملون في إحدى الورشات لموقع "السوري الجديد".

يقول خالد أبو سليم، 18 عاماً، إن اللهيب طال جميع الآلات التي يعملون عليها في تكرير الفيول.

"أدى عطل فني إلى نشوب حريق التهم الورشة بالكامل"، يتابع خالد مضيفاً، "نجونا بأعجوبة والحمد لله".

(خالد أبو سليم)

خلال عملية التكرير اليدوي يخرج الغاز أولاً – لا يمكن الاستفادة منه بسبب احتياجه لتقنيات عالية أثناء التعبئة - ثم  الكاز، البنزين، والمازوت، وفق نفس الترتيب.

وتنتشر حراقات الفيول اليدوية في معظم أنحاء الشمال السوري كما تنتشر بكثرة أيضاً في المنطقة الشرقية.

سوق أبو دالي

يشتري تجار إدلب المازوت والبنزين النظامي -  الوارد من مصافي النظام إلى حماة - من سوق أبو دالي.

ويقول الناشط "معاوية الآغا"، وهو  من مدينة إدلب، إن هذا السوق كبير جداً ويعتبر المصدر الأساسي للمازوت النظامي.

ويوضح الآغا، "يدخل التجار المحروقات من سوق أبو دالي إلى أسواق كبيرة في إدلب".

(معاوية الآغا)

لكن "لؤي" أشار إلى عدم احتكار سوق أبو دالي لعملية التوزيع مؤكداً فتح طرقات جديدة منها قلعة المضيق، السعن.

ويضيف "لؤي"، أن أهم سوقين في إدلب هما معارة ومعصران ويتجمع فيهما كل أنواع المحروقات من شتى المصادر.

وعن طريق هذين السوقين توزع المحروقات في المحلات والبسطات التجارية المنتشرة في جميع مناطق محافظة إدلب.

تركيا تحظر المحروقات

على الرغم من تصديرها لمختلف المواد الغذائية والمواد الخام الداخلة في الصناعات الخفيفة وجميع الأدوات المنزلية، لا يمكن لتجار الشمال السوري الحصول على المحروقات من تركيا.

ويقول "حسن الأسعد" وهو ناشط صحفي من سراقب بإدلب، إن تركيا تمنع تصدير النفط الخام والمكرر إلى سوريا.

ويعتقد الأسعد أن هذا الأمر طبيعي نظراً لضعف إمكانيات الأتراك في هذه المادة.

(حسن الأسعد)

لدى اطلاع معد التحقيق على تقارير صحفية حول الموضوع تبين أن تركيا احتلت في العام 2013 المرتبة 62 عالمياً في إنتاج النفط فهي تنتج 980،52 برميل نفط خام يومياً، بينما احتلت سوريا المرتبة 32 بمعدل إنتاج 000، 400 برميل نفط خام يومياً.

يقول الكاتب مظفر العاني خلال مقال على موقع "تركيا بوست" إن تركيا تستورد أكثر من 90% من احتياجها النفطي من الخارج، مما يضعها على رأس قائمة البلدان التي تستهلك أغلى أنواع الوقود على مستوى العالم.

ويتابع مظفر في نفس المقال، "بحسب هيئة تنظيم سوق الطاقة التركية، شكّل النفط الإيراني 20% من واردات النفط التركية في العام 2015، في حين شكلت واردات روسيا 19 %. ومع ذلك، انخفضت واردات النفط التركية من روسيا إلى 10.5 % في الربع الأول من العام 2016، في حين ارتفعت الواردات القادمة من إيران إلى 23.5 % من مزيج إمدادات النفط المستوردة لتركيا.
وفي الربع الأول من العام 2016، بدأت تركيا في استيراد النفط الخام من الكويت لتصبح بذلك خامس أكبر مورد نفط إلى تركيا بنسبة 8.3 % من واردات النفط التركية".

ما هي الأسعار؟

يباع برميل المازوت النظامي في الشمال السوري بـ 70 ألف ليرة سورية والبنزين النظامي بحدود الـ 80 ألفاً، بينما يباع المازوت المكرر بمبلغ يتراوح بين 52 و 57 ألفاً للبرميل الواحد، ويبلغ سعر برميل البنزين المكرر قرابة 70 ألف ليرة و الكاز لا يتجاوز سعر البنزين.

يقول "لؤي" إن المحروقات ارتفعت عن السنة الماضية بنسبة 20%.

ويشير إلى أن برميل المازوت كان يباع في العام الماضي بـ 40 ألف ليرة تقريباً.
 
ويؤكد أن سعر الكاز كان يتماشى مع سعر المازوت لكنه يرتفع الآن بنسبة 10% بسبب زيادة الطلب عليه لخلطه بالمازوت.


بالنسبة للبنزين - بحسب لؤي - فقد وصل في أحد الأيام إلى 700 ليرة لليتر الواحد أي ما يعادل 140 ألف ليرة للبرميل وذلك لأن البنزين النظامي يتأثر بفتح الطريق وإغلاقه من قبل النظام بسبب المعارك التي نشبت في ريف حماة إضافة لمدى وجوده في أسواق النظام.

"حسن الأسعد" أشار إلى نقطة جديدة في سبب ارتفاع المحروقات.

يقول حسن: "نسبة الغلاء تأتي من المنبع الرئيسي، سعر البرميل في مناطق تنظيم الدولة لا يتجاوز 15 ألف ليرة لكن أجرة النقل والإتاوات التي يدفعها أصحاب الصهاريج للأكراد ترفع السعر لعدة أضعاف".

الأكراد

لا يمكن للصهاريج المحملة بالمحروقات المكررة أو الفيول تجنب المرور بمنطقة عفرين الواقعة تحت سيطرة قوات كردية -pyd الاتحاد الديمقراطي.

وتمكن معد التحقيق من الاستماع لشهادات عديدة من تجار وأصحاب صهاريج حول الطريقة التي يتعامل بها الأكراد في عفرين مع صهاريج النفط القادمة من المنطقة الشرقية.

وقال تاجر من مدينة إدلب - رفض الكشف عن اسمه - إن حاجز عفرين غالباً ما يطلب إفراغ الصهاريج بالكامل لتعود مجدداً إلى المنطقة الشرقية حيث تأتي بحمولة جديدة.

وقال "لؤي" إن الإتاوات التي يدفعها التجار تبلغ 3 دولار على كل برميل.

لكن مصادر عديدة أكدت لموقع "السوري الجديد" بلوغ الإتاوة قرابة 10 دولار في أحيان كثيرة.

وقال "حسن الأسعد" إن الأكراد يرفضون مرور الحمولة دون إفراغها كاملة أو إفراغ النصف أو الربع على أقل تقدير.

ولم يتسن التأكد المباشر من هذه المعلومات بسبب المخاطر الأمنية التي قد يتعرض لها معد التحقيق، كما لم يتمكن "اقتصاد" من الحصول على تصريح من مسؤولين أكراد حول الموضوع.

فاتورة باهظة

يعتبر الناشط "محمد فاضل" أن الغلاء الذي يتحدث عنه الأهالي غير ملاحظ لدى شريحة واسعة من الناس.

"بالنسبة لأولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار لا يوجد فرق  يذكر"، يقول "فاضل" الذي ينشط في المجال الإغاثي والإعلامي في إدلب.

وتشمل هذه الشريحة العاملين في المنظمات الإغاثية والمشافي والمؤسسات الصحفية، إضافة لكبار التجار ومكاتب الصرافة والحوالات.

بالنسبة للشريحة الأوسع وتتألف من تجار المفرق والحرفيين والمزارعين وغيرهم، يعتبر الغلاء كبيراً جداً، "كل إنسان في هذه الشريحة يعتبر دخله معدوماً"، يؤكد "فاضل" ويتابع: "يبلغ الدخل الشهري للعامل قرابة 35 ألف ليرة سورية لو حسبنا تكلفة الاحتياجات الضرورية فقط لوجدنا أن هذا المبلغ لا يغطي كامل هذه النفقات".

ويستمر "فاضل" في توضيحه قائلاً: "5000 ليرة كهرباء، 5000 ليرة ماء، 8000 ليرة جرة غاز، إضافة لتكاليف التدفئة التي تتجاوز الميزانية الشهرية بأضعاف".

فرق واضح

من أهم الإنجازات التي تحققها المحروقات هي الحصول على التدفئة.

لكن المازوت مرتفع الثمن ولا يستطيع معظم الناس الحصول عليه - عدا من ينتمي للشريحة الأولى التي تتقاضى رواتبها بالدولار-.

يقول "إسماعيل" وهو من سكان إدلب، إنه اختار التدفئة على الحطب نظراً للتكلفة الأقل.

ويوضح "اسماعيل" أن كل بيت بحاجة لقرابة نصف طن على الأقل من الحطب.

 "طن الحطب الأخضر يتجاوز 65 ألف ليرة واليابس بـ 90 ألفاً.. إذا قدرنا احتياج البيت الواحد لطنين من الحطب في الشتاء تكون الفاتورة 130 ألفاً، إذا استخدمنا الحطب الأخضر وهو صعب الاشتعال، بينما علينا أن ندفع مبلغ 180 ألف ليرة جراء استخدامنا الحطب اليابس".
 
بخلاف "إسماعيل" الذي يفضل استخدام الحطب في التدفئة، اختار "محمد" وهو من سكان إدلب أيضاً، مدافئ المازوت لأنها سهلة الاستعمال.

"محمد" العامل في مجال الصحافة، ويتقاضى راتبه بالدولار، يدفع قرابة 90 ألف ليرة شهرياً لشراء برميل ونصف - 300 ليتر - من المازوت.

يقول محمد: "يحتاج فصل الشتاء لمبلغ يتجاوز 300 ألف ليرة، إنه مبلغ كبير جداً!".

على أي حال.. يوجد فرق كبير بين دخل "إسماعيل" - ينتمي للشريحة الثانية - الذي يتقاضى مبلغ 35 ألف ليرة شهرياً، وبين "محمد" - من الشريحة الأولى - الذي يؤكد أن راتبه الشهري يتجاوز 300 دولاراً، أي ما يعادل 150 ألف ليرة سورية.

ملخص

- تأتي المحروقات من مناطق سيطرة النظام ومناطق تنظيم الدولة وتحظر تركيا تصدير المحروقات إلى سوريا.

- يساهم كل من النظام والأكراد والمعارك الدائرة على طرقات المحروقات في رفع الأسعار.

- الأسعار بالنسبة للذين يحصلون على الأموال بالدولار طبيعية بينما يعتقد ذوو الدخل المحدود وهم من يعتمدون على الليرة السورية التي فقدت أضعاف قيمتها، أن الأسعار غير محتملة وعليهم دفع فاتورة باهظة الثمن لقاء التدفئة والنقل وحتى... طهو طعامهم!!

ترك تعليق

التعليق