عند إعادة إعمار حمص، وحلب، و.. احذروا تجربة بيروت


تقرير ملفت نشرته جريدة الواشنطن بوست منذ شهرين، تحذر فيه من تكرار تجربة إعادة إعمار بيروت، في حالة المدن السورية المدمرة. قام "اقتصاد" بترجمته ووضعه بين يدي القارئ السوري المهتم.


نتج عن الصراع في سوريا تقسيم وتدمير العديد من المدن السورية، مثل حلب وحمص. وبعد توقف الحرب، هناك حاجة كبيرة لإعادة إعمار تلك المدن. لكن، يخشى خبراء من تكرار تجربة إعادة إعمار بيروت التي قسمتها الحرب، في حمص وحلب هذه المرة. وهم يرون أن هذه المدن لن يتم إعادة إعمارها، بل سيتم التخلص من المناطق المدمرة تماماً وإعادة بنائها من الصفر بواسطة، "سوليدير جديد".

سوليدير، هي شركة بناء خاصة في لبنان أخذت على عاتقها إعادة إعمار وبناء مدينة بيروت المدمرة بعد الحرب الأهلية التي دامت من 1975 إلى 1990 من القرن الماضي. ولكن إعادة إعمار بيروت كان لها ارتدادات اقتصادية وسياسية أعطت دروساً عن طرق إعادة إعمار مدينة مدمرة.
 
حولت سوليدير مدينة بيروت إلى مدينة "الإستثناءات"، حيث استقطبت فنيي العمارة، وبسبب التسهيلات الضريبية كذلك استقطبت المستثمرين الأجانب، وهذا ساعد من ناحية في دعم اقتصاد البلد، لكن من الناحية الأخرى تم هدم أبنية أثرية متأثرة بالحرب أكثر مما هدمته الحرب ذاتها، وبذلك تحولت بيروت ذات التاريخ الروماني والعثماني والمملوكي والفرنسي إلى مدينة من دون ذاكرة أو تاريخ.
 
تم تقسيم مدينة بيروت أثناء الحرب الأهلية بواسطة حواجز التفتيش إلى بيروت الشرقية "المسيحية" وبيروت الغربية "المسلمة"، وحتى اليوم لا تزال المدينة تعاني من أزمة بالحركة في مدخل وسط مدينة سوليدير وهو ما أطلقت عليه منى فواز، باحثة التصميم الحضري، اسم "أبنية الأمن". في هذه المنطقة يتم حماية الممشى الجانبي خارج الأبنية العامة بواسطة حائط اسمنتي وأسلاك شائكة، مما يجبر المارين على استخدام الشارع. كما أن هذه المنطقة تحتوي على أبنية السياسيين والمقرات الرئيسية للأحزاب السياسية حيث تُغلق الطرق المؤدية إليها بنقاط التفتيش، كما أن الحديقة العامة الوحيدة حتى وقت قريب كانت مغلقة لضرورات أمنية. هذا الشعور بالضغط يجعل الناس في بيروت يتمنون العيش داخل فقاعة ويعزلون نفسهم عن المحيط، وهذا ما يدفع أكثر من نصف شباب البلد والمتعلمين إلى الهجرة للخارج في مرحلة من حياتهم.
 
سوليدير كانت مثال لخلط المصلحة العامة مع المكاسب الخاصة. كانت أرباح وفوائد عملية إعادة إعمار بيروت تعود لأعضاء الحكومة المشاركين في شركات البناء أو أشخاص مرتبطين بهم. ومثال ذلك رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي امتلك بشرائه أسهم في سوليدير بقيمة 128 مليون دولار أكبر مساهمة في الشركة التي سلمها مجلس الوزراء مشروع إعادة الإعمار الأكثر ربحاً. بالإضافة لذلك، امتلك الحريري أكبر شركة بناء خاصة وتم تعيين مديرها كرئيس لملجس التطوير والإعمار، وهذا حسب مهندس العمارة هاشم سركيس قلب المؤسسة العامة التي تراقب عمل الشركات الخاصة.
 
أصبح لبنان تحت وطأة ديون كبيرة لتمويل إعادة الإعمار وتجاوزت الديون  149% من الناتج المحلي. ويعتبر لبنان اليوم البلد الثالث، الأكثر مديونية في العالم. ولأن السياسيين وعائلاتهم يسيطرون على ثلث أسهم البنوك ولأن المصارف اللبنانية تمتلك حوالي 85% من الديون، كانت أرباح الدفعات تذهب إلى القياديين والسياسيين مما سبب بغرق لبنان أكثر بالديون.
 
ساهم إعادة إعمار لبنان في الحفاظ على اقتصادات الحرب عندما تناغمت مصالحه مع قادة الميليشيات.  أثناء الحرب الأهلية أسست المليشيات خدمات مدنية لمناطقهم المقسمة طائفياً، قاموا بجني الضرائب من المواطنين في مناطقهم وبالمقابل أمنوا خدمات الكهرباء والماء والنظافة والتخلص من القمامة ونظموا المواصلات والطرق، بالإضافة لذلك، حولت المليشيات الحرب الأهلية إلى مصدر استراتيجي للدخل مثل تهريب الأدوية والمخدرات ونهب الميناء والمضاربة ضد الليرة اللبنانية، بالتالي كان دخل الميلشيات يصل إلى حوالي المليار دولار سنوياً، مما أمن ثروات شخصية لقادة الميلشيات وساهم بإطالة أمد الحرب.

تزامن إعادة اعمار لبنان مع مصالحة سياسية حيث أصبح أمراء الحرب السابقين، سياسيين وبرلمانيين ووزراء.

تجلى الخلل بإعادة الإعمار في بيروت بتدني وتراجع بالخدمات العامة، ففي الصيف يتوقف ضخ مياه الشرب وتسبب شاحنات المياه  أزمة سير خانقة. كما أن سرعة الانترنت لا تتجاوز 2.3 ميغابايت بالثانية مقارنة مع 22.4 للسرعة العالمية وهي لا تتوفر إلا بوجود الكهرباء، التي لا تتوفر بشكل دائم، حيث يحدث التقنين لمدة 3 ساعات يومياً في بيروت وربما تصل إلى 18 ساعة في بعض المناطق الأخرى، على الرغم من تخصيص أكبر مبلغ من ديون البنك الدولي لتأمين الكهرباء.
 
قد يستطيع كل منزل شراء خزان ماء أو مولدة كهربائية، ولكن لا يستطيع التخلص من القمامة إلا بوجود خدمة عامة للتخلص منها من الشوارع، وهذا ما حصل عندما تم اغلاق مكب النفايات منذ اكثر من عام وتراكمت أكوام القمامة في بيروت.

تجاوز الانكماش الاقتصادي وانعدام الأمن بسبب الحرب في سوريا، الحدود اللبنانية. لكن يأمل صناع القرار في الأوساط السياسية اللبنانية بالحصول على فرص للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وكذلك في إعادة فتح المصارف والمراكز التجارية.
 
مع استعداد الجهات المانحة الدولية والمتخصصة في مجال التنمية لإعادة إعمار سوريا، ينبغي التعلم والاستفادة من التجربة اللبنانية، حيث أن لبنان الآن في حالة من الشلل السياسي وبنية تحتية هشة ومثقل بمديونية مهولة.

 لبنان الآن هو الحالة التي يجب أن تسعى سوريا إلى تجنبها عند توقف القتال. إن وقف الأعمال العدائية ضروري في سوريا، ولكن عند إعادة الإعمار يجب التخلص من كل الولاءات والمحسوبيات التي كانت أثناء الحرب، لأن الحفاظ على سلطة أمراء الحرب تعني استمرار قوتهم وإطالة أمد عدم الاستقرار وستصبح سوريا نموذج عن لبنان الآن بكل ما فيه من انقسام وضعف.

المطلوب الآن أكثر من إعادة الإعمار هو إعادة توجيه الاقتصاد السياسي بعيداً عن الحرب  وأمرائها.

 لبنان يمثل هذه الحالة الاشكالية لأن الجناة ومجرمي الحرب وقت الصراع هم نفسهم من تسلم المناصب السياسية في فترة ما بعد الحرب.

ترك تعليق

التعليق