علم الإحصاء.. كيف يُحسّن حياة المزارع "عمر" وأمثاله في الغوطة الشرقية؟
كسابق عهده، يحاول "عمر"، أحد سكان مدينة دوما، استيعاب ما حدث في بلده, وكيف مزقتها حروب كانت هي الأشد على مر التاريخ، ولم تشهد مثيلاتها حتى في حرب فيتنام على حد قوله.
ابتدأت قصة "عمر" في عام 2013 (وهي أشد الأعوام حصاراً على الغوطة الشرقية)، من خلال رغبته في الاستمرار بمشروعه الحيواني الذي كان وقتذاك عبارة عن مجموعة من الأبقار الحلوب والعجول، حيث كان يجني منه فائدة مادية تساعده على تأمين قوت يومه وعائلته، وتأمين جميع متطلباتهم دون منحة أو مساعدة من أحد.
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لم يستمر "عمر" في المشروع الذي ورثه عن والده منذ أكثر من عشر سنوات، وقام ببيع ثروته الحيوانية لعدم استطاعته على تأمين الأعلاف اللازمة لها في أشد الأيام حصاراً، ولم يفلح أيضاً في إقناع المؤسسات الإغاثية والتنموية وقتها (التي عكفت في تلك الفترة على دعم زراعة مادتي القمح والشعير) بطرح مساعدات لمربي الأبقار في الغوطة الشرقية تتمثل بتوزيع الأعلاف والأدوية البيطرية.
وظل طموحه معلقاً إلى خريف هذا العام، حتى حصل على منحة زراعية استطاع من خلالها زراعة أرضه بمحصول الجزر. ولكن هذه المنحة الزراعية ليست بمستوى قوة مشروعه الذي كان يحلم باستمراره.
دارت في خلَده الكثير من الأسئلة.. لماذا لا يتم تقديم دعم الفلاحين في الظروف والأوقات المناسبة؟، وبعد طرح منح بيطرية من قبل بعض المؤسسات أوائل هذا العام، لماذا تأتي هذه المشاريع متأخرة تطبيقاً لمقولة (يلي ضرب ضرب ويلي هرب هرب)؟
إذا ما امتثلنا للواقع المرير في تلك الفترة سنجد أنه كان من الضروري التركيز على مشاريع تنموية بعيدة الأمد (وفق دراسات إحصائية معينة يتبعها سلوك إداري قوي) تمكّنها من مساعدة المحاصرين على تجاوز المحنة آنذاك، لكننا إذا راقبنا سلوك بعض منظمات العمل المدني في الغوطة الشرقية في العام ذاته سنجد أنها كانت تعكف على استجابات إنسانية طارئة وسريعة وقد يزول أثرها بعد مدة قصيرة جداً (توزيع سلال غذائية ومواد تدفئة ...إلخ).
وفي هذا الصدد سنسلط الضوء على علم بالغ في القدم والحداثة في نفس الوقت. نستطيع أن نطلق على علم الإحصاء أو "الدراسات الإحصائية" أنه عصب إدارة سلوك الشركات، فهو يُعنى بدراسة المجتمع وإعطاء مؤشرات إحصائية عن حجم الظواهر التي تحتاج إلى حلول سريعة، حيث يمكن توظيف العديد من التطبيقات الإحصائية كالمنحدرات الخطية والعلاقات بين المتغيرات التي من شأنها تحديد حجم المأساة بشكل دقيق والتعامل معها في الوقت المناسب.
وبشكل خاص، أخذت مؤسسات الغوطة الشرقية هذا الدور في الآونة الأخيرة والذي استطاعت من خلاله رسم أهم أهدافها في الأعمال التي تقدمها للمتضررين وتوقع تنفيذها بطريقة تناسب المجتمع المستهدف بالخدمات، وبهذه الطريقة يكون النجاح مضاعفاً.
(صورة تعبيرية لمخطط التوزع الطبيعي لمجتمع العينات والذي تم ذكره في التقرير )
يقول الأستاذ "نبراس"، المدير التنفيذي لمؤسسة زيد بن ثابت الأهلية في الغوطة الشرقية والمدير المالي لمؤسسة SDI، إنهم يعتمدون بشكل كبير على الإحصاء وتطبيقاته في عملهم من أجل معرفة احتياجات المجتمع لمشروع معين دون غيره، وأن أي مشروع يودون إطلاقه يتطلب معلومات ومؤشرات أولية نستطيع الحصول عليها من خلال استبيانات خاصة يتم تعبئتها على عينة من سكان المدن التي نعمل بها، فعندما نطلق حملة إغاثية نستهدف من خلالها العوائل الأشد فقراً لابد من وجود إحصائيات وأرقام حول أعداد هذه العوائل وتوزعها ونسبتها وإمكانية الوصول إليها، وبناءً على تلك المؤشرات نقوم بتوجيه المشروع وتحديد حجمه وطبيعة خدماته.
وأضاف "نبراس" أنه في مرحلة من المراحل نقوم بعمليات تقييم ومراقبة (Baseline - Endline) لمشاريعنا بطريقة الإستبيانات على عينة من المستفيدين وذلك لمعرفة نقاط الخلل واستدراكها وإبراز أهم العقبات والصعوبات والتوصيات للمراحل المقبلة التي تواجه عملنا وغالباً ما تنفذ هذه الدراسات من قبلنا أو من قبل مؤسسات شريكة لنا في عملنا.
وبناء على المؤشرات الإحصائية نستطيع القول أن التجربة الإحصائية التي تم استخدامها من قبل بعض المنظمات قد استطاعت إلغاء الأنماط التقليدية في الإدارة، وأصبح بمقدور تلك المؤسسات النهوض بالمجتمع المتردي في ظل حرب استمرت لست سنوات.
ومن هنا يأتي الدور الكبير للإحصاء وتحليل البيانات الذي تم وصفه بالعلم الحديث القديم كما أسلفنا، حيث يمكن توظيف هذه المؤشرات الإحصائية المتعلقة بالمشكلة في ثلاثة وظائف رئيسية، أهمها: توفير استعراض سريع لسمات الظاهرة المراد دراستها وتوصيفها بالشكل الأمثل، ثم التركيز على نقاط القوة والضعف في هذه الظاهر وتقويمها، وأخيراً يساعد تطبيق هذه المؤشرات (في فترات زمنية مختلفة) على مراقبة وتقييم التطور الحاصل على الظاهرة.
ومع كل ذلك نجد العديد من العقبات التي تحول دول الخوض في اعتماد سياسية إحصائية لدى بعض المؤسسات، فبحسب "الآنسة نعمات" مسؤولة الحوكمة بفريق Auranitis Life Line، فالعمل الإحصائي في الغوطة الشرقية يكاد يكون محدوداً نوعاً ما، حسب تجربة فريقها، ولم يتم تعزيزه بشكل كافي.
وتقول "الآنسة نعمات": "من أجل تطبيق الإحصاء في عملنا نحتاج إلى بيانات دقيقة أو شبه دقيقة (على الأقل) وكما يعلم الجميع أن الغوطة الشرقية تمر بحالات متقلبة جداً بين نزوح وتهجير وتختلف هذه الإحصائيات بين يوم وآخر، ونتطلع إلى تطوير هذا الجانب الحساس في القريب العاجل، حيث بدأت محافظة ريف دمشق في الحكومة السورية المؤقتة مشكورة بالعمل على تفعيل مكتب الإحصاء وبانتظار النتائج على الأرض".
وأضافت "الآنسة نعمات" أن هناك فائدة كبيرة جداً للتطبيقات الإحصائية في إدارة المشاريع بشكل عام، فعندما تمتلك إحصائيات دقيقة حول ظاهرة معينة تكون قوة مشروعك على الأرض كبيرة، وبالتالي تحصل على أفضل النتائج أثناء التقييم وتستطيع إيجاد فرق ملموس بين هذا المشروع وبعض المشاريع التي لا تستند إلى إحصائيات وأرقام ودراسات دقيقة.
فالمؤشرات الإحصائية يمكن أن تستخدم كأداة للإدارة الناجحة، حيث تسلط الضوء على الظواهر والمشكلات المراد دراستها، وبذلك تضعنا أمام الخيارات المتاحة لصنع القرار المناسب، الذي نأمل أن يجني الفائدة الكبيرة على أهالي الداخل الذين عانوا الأمرّين جراء حرب أهلكت الحرث والنسل.
التعليق