ذو أصول نمساوية.. سيرة "الطربوش" في سوريا


قبل سنتين، رحل في مدينة حمص، الحاج "عبد الفتاح تربدار"، أقدم طرابيشي- صانع طرابيش- في سوريا، والذي عمل في هذه المهنة أكثر من ستين عاماً، وظل متمسكاً بمهنته النادرة حتى أنفاسه الأخيرة، رغم أن الطرابيش التي كان يصنّعها ويعرضها في محله الكائن في أحد زواريب حي باب هود الحمصي العريق لم تكن تجد من يقتنيها أو يهتم بشرائها سوى قلة من كبار السن أو ممن يعملون في مهنة التمثيل المسرحي أو باعة العصائر الجوالين.

 وبوفاة الحاج تربدار، طُويت أقدم مهنة تراثية في سوريا ارتبطت بالوجاهة والأناقة.


 وعُرفت الطرابيش منذ أكثر من مائة عام، والعامل الأساسي في انتشارها وشيوعها هو الفرمان الشاهاني الذي أصدره السلطان العثماني محمود الثاني، الذي اهتم بلباس رجال دولته ورعيته، وحدد في هذا الفرمان طول الشاربين واللحية وطراز الجبة وعرض أكمامها، وأوجب لبس الطربوش كلباس للرأس معترفاً به رسمياً، بل كان أول من لبس الطربوش من سلاطين الدولة العثمانية.

 ويذكر المؤرخ محمد سعيد القاسمي في كتابه (قاموس الصناعات الشامية) أن الطرابيش في عهد السلطان محمود كانت تُجلب من البلاد الأجنبية، "وبدأ أمرها ينتشر حتى عم واستعاضت الناس بها عن جميع ما تقدم من القاووق والعُرف والطبزة واللبادة إلا بقية من مشايخ الطرق لم تزل محافظة على هيئة أسلافها تعيّشاً بها وصارت الناس تتعمم على الطربوش ثم وجدوا كبر العمامة فيه غلظة فأخذوا يتلطفون في تصغيرها حتى آل الأمر إلى ما ترى".

 ويروي القاسمي في كتابه المذكور أن "عمةّ الطربوش البيضاء لم يكن زياً لكل العلماء في دمشق فالشريف يلف الأغباني عليه والعلماء المعمرون لا يتعممون إلا به أما العمة البيضاء بزيها المتقن الآن فكانت خاصة بقضاة دمشق الأتراك فقط ثم لم يلبث التقليد أن فعل فعله حتى شاعت العمة البيضاء".

وأخذ ولاة السلطان محمود يفرضون الطربوش على رجال الدولة وصغار الموظفين فلبسوه امتثالاً ورهبة أما الشعب فلم يَرُق له الطربوش في البدء حتى يروى أن بعض رجال الدين أفتوا سراً بتحريمه وحضّوا الناس على مقاومته، ولكنهم تراجعوا عن ذلك لأنهم خافوا على أُعطياتهم أن تتوقف وعلى مراكزهم أن تزول فاستعاضوا عن طاقية العمامة البيضاء بالطربوش وهكذا ظهر النموذج الجديد للعمامة فوق الطربوش الأحمر ذي الطرة الخضراء ثم تدخلت أنصاف الحلول فابتدعوا "اللفة الأغباني" للكبار و"اللفة اللام ألف" للشبان المتأنقين وهكذا فُتح الباب على مصراعيه للطربوش للدخول والانتشار في سوريا.

الطربوش النمساوي

كلمة طربوش محرفة عن الفارسية (سربوش) وتعني زينة رأس الأمير، ثم حُرّفت إلى (شربوش) فأصبح شبه عمامة تلتف حول الطاقية حمراء من الجوخ سطحها يتراوح بين (10-14) سم وتعلق في وسطها شرابة غليظة زرقاء أو سوداء تتدلى حتى العنق، وحل محل الطربوش الكبير، الطربوش النمساوي تشبهاً بالأجانب، وأطلق عليه اسم (فس FEZ) نسبة إلى مكان صناعته وهي (فيينا) عاصمة النمسا، وكان شكله اسطوانياً ولونه أحمر أو أبيض ثم حوّل الاسم إلى (فاس) وزعموا أنه يدل على مدينة (فاس) المغربية كي يموّه عن المسلمين منشؤه الأصلي ويرضي مشاعرهم الدينية بأنهم لا يستعملون بضائع الأوروبيين.

 وعاش الطربوش فترة ازدهار وأصبح شعاراً قومياً بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى بل احتل مركز الصدارة بين أغطية الرأس وأصبح لبسه ردة فعل على بعض المحاولات بإدخال القبعة الأوروبية باعتبارها لباس المستعمرين.

بدأ زوال الطرابيش الحمراء نسبياً من شوارع المدن السورية مع المرسوم الجمهوري الذي أصدره العام 1949 الرئيس السابق (حسني الزعيم) الذي منع بموجبه الموظفين والمستخدمين لدى الحكومة من ارتدائه ثم ألحقه بمرسوم طريف آخر منع بموجبه السير بالشوارع بلباس البيجاما متأثراً بمراسيم كمال أتاتورك في تركيا آنذاك.

وبعد نهاية حكم الزعيم الذي استمر 130 يوماً فقط ألغى الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي مرسوم الطرابيش والبيجاما ولكن الانقلاب التالي بزعامة أديب الشيشكلي أعاد العمل بمرسوم البيجاما ونسي مرسوم الطربوش.

البوغلي واليارم

اشتهر الحاج (عبد الفتاح تربة دار) بكونه المكوجي الخاص لطربوش الرئيس السابق هاشم الأتاسي ابن مدينة "حمص" السورية.

وكان إلى أواخر حياته يزاول مهنته الغريبة وغير المألوفة في دكانه الصغير محتفظاً بأدوات خاصة لتصنيع الطرابيش وكيّها وهي عبارة عن قوالب نحاسية مختلفة الأحجام تأخذ جميعها شكل الطربوش كما يحتفظ في دكانه بعشرات الأنواع من الطرابيش الحمراء الجاهزة التي لم يعد يلبسها أحد، كما قال لكاتب هذه السطور قبل وفاته بسنوات.

 وكشف تربدار آنذاك أنه بدأ في هذه المهنة كصانع عند أحد أقربائه عام /1950/، وكان يتقاضى عشرة قروش في اليوم، ثم أصبح يتقاضى ليرة وربع الليرة في الأسبوع، وهو إن كان اليوم مبلغاً تافهاً، إلا أنه لم يكن بالمبلغ الضئيل في تلك الأيام.

طريقة صنع الطربوش

يقول الحاج عبد الفتاح تربة دار: "يُصنع الطربوش من الجوخ الخام الذي كنا نستقدمه من تشيكوسلوفاكيا ومع القماشة كنا نجهز قالب القش ومهمته عزل الطربوش عن الرطوبة وإعطائه المتانة والتناسق وقد يُصنع الطربوش دون قش كالطرابيش المغربية ولكل رأس قالب خاص يتراوح بين 25 سم و75 سم حيث يتم تفصيل القماش على القالب المخصص ثم يُحشى به القش ويُشد ويُكبس على النار لمدة ثلاث دقائق.

والطربوش المعتاد بحاجة بين الفينة والأخرى وفي مناسبات الأعياد خاصة إلى كي بواسطة قوالب نحاسية منها ما يُعرف بـ "البوغلي" و"العزيزي" و"اليارم زحاف" وغيرها على حسب طلب من يُكوى له.

وكان مكوجي الطرابيش يصف تلك القوالب النحاسية المجوفة في حانوته فوق دكة من الخشب وتحت كل قالب ثقب في وسط الدكة ملبّس من حديد لوضع النار به وتسخين القوالب، وكان الحرفي ينزع الطرة عن الطربوش ويرشه بالماء ويركّبه على القالب الذي يرغبه صاحب الطربوش، وفوق الطربوش يركّب قالباً ثانياً له يدان من خشب يمسكهما المكوجي ويكبس القالب الأعلى فوق القالب المركب عليه الطربوش مرات عديدة حتى إذا انتهى من الكوي يرفع القالب الأعلى ويركب الطرة على الطربوش ثم يمسحه ويلمعه وكان أغلب الفقراء ومتوسطي الحال إذا عتقت طرابيشهم يأتون بها إلى المكوجي لصبغها أو مسحها أو كيِّها فتعود وكأنها جديدة".


دارت عجلات الحياة سريعاً فتجاوزت مهنة الطرابيشي وخلّفتها لعوامل الزمن الجاحد والزوايا المهملة في متاحف التقاليد الشعبية، رغم أنها كانت قبل نصف قرن من المهن الأساسية المهمة في المجتمع.

ترك تعليق

التعليق