الصراع على خطوط الغاز بين إيطاليا وألمانيا على أشده.. وروسيا الرابح الأكبر
- بواسطة الأناضول --
- 20 ايلول 2016 --
- 0 تعليقات
تسعى إيطاليا بشكل مكثف وحثيث، هذه الأيام، لمواجهة الانعكاسات السياسية والاقتصادية المتوقعة لمشروع "نورد ستريم 2"، الذي سيقوم بضخ كميات كبيرة من الغاز الروسي إلى ألمانيا، معززاً من قبضة برلين على الاتحاد الأوروبي سياسياً واقتصادياً، على حساب روما بالدرجة الأولى، وكذلك من اعتمادية أوروبا على الغاز الروسي.
وترى دراسة حديثة نشرها معهد "بروكنغز" الأمريكي للدراسات السياسية، بأن الصراع تتجاوز تأثيراته حدود القارة الأوروبية، ليؤثر على سياسات كل من روسيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وإيطاليا تجاه عدد من الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط وشرق أوروبا، حيث توجد مصادر بديلة للغاز الروسي، أو دول عبورٍ أو أسواق كبيرة له.
وبدأ الصراع بين ألمانيا وإيطاليا بأخذ منحىً تصاعدي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتزايد تركز السيطرة السياسية والاقتصادية على الاتحاد في برلين، الأمر الذي ترى الدراسة بأنه سيمنح موسكو أريحية أكبر في ممارسة سياساتها، فلا يقف الأمر عند انشغال أوروبا بصراعاتها الداخلية عن تقديم مواقف موحدة وقوية، بل قد يجر الصراع الدائر بين إيطاليا وألمانيا البلدين نحو المنافسة على التقرب لموسكو.
نورد ستريم 2
وقعت شركة غازبروم الروسية، في 4 سبتمبر/أيلول 2015، مع شركائها في مشروع "نورد ستريم"، اتفاقية لمضاعفة صادرات الغاز الروسي لألمانيا عبر "نورد ستريم"، من خلال إنشاء خطوط أنابيب جديدة، وأطلق على المشروع اسم "نورد ستريم 2".
يتجاوز "نورد ستريم" دول وسط أوروبا وأوكرانيا، ويمر عبر بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا مباشرة، حيث يعتبر أطول خط أنابيب تحت بحري في العالم، ويقوم منذ 8 أكتوبر/تشرين أول 2012 بضخ 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً إلى ألمانيا، يتم استهلاك أكثر من 65% منها في ألمانيا (أي 39% من احتياجات ألمانيا إلى الغاز)، بينما تقوم ألمانيا بضخ الكميات المتبقية إلى دول أوروبية أخرى.
سيقوم "نورد ستريم 2" بمضاعفة كمية الغاز الروسي المصدرة إلى ألمانيا، لتصبح 110 مليار متر مكعب سنوياً، حال الانتهاء من أعمال الإنشاء والتشغيل المخطط لها أن تكون أواخر عام 2019، الأمر الذي سيحول من ألمانيا إلى محطة رئيسية لتوزيع الغاز في القارة الأوروبية، بينما ستقوم موسكو بإيقاف الضخ عبر أوكرانيا.
وتكمن أهمية المشروع بالنسبة لموسكو في إنهاء الاعتماد على خطوط التصدير المارة بأوكرانيا، فقد كانت روسيا تضخ 80% من غازها المصدر إلى أوروبا عبر أوكرانيا، إلا أن تلك الصادرات أخذت تشهد حالةً من عدم الاستقرار بعد تفاقم الأزمة بين الطرفين، حيث استخدم الغاز كورقة ضغط من كلا الطرفين، ما أثر على الاقتصاد الروسي، وأثار خشية الروس من فقدان السوق الأوروبية.
يضاف إلى ذلك، رغبة الروس بتعزيز موقعهم في سوق الطاقة الألماني، الأكبر في أوروبا، وتعزيز قدرة الغاز الروسي على منافسة غريمه النرويجي، الذي يمتلك حصة تبلغ 30% من السوق الألماني، حيث تأمل موسكو بأن يمكنها المشروع من مضاعفة الكميات والتقليل من تكاليف التصدير، وبالتالي خفض الأسعار ورفع قدرتها التنافسية.
كما تشير الدراسة إلى وجود اعتمادية كبيرة لدى دول في شرق ووسط أوروبا (هي التشيك، المجر، بولندا، سلوفاكيا، رومانيا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، وكرواتيا) على الغاز الروسي، حيث ستزيد تلك الاعتمادية بعد أن تتمكن موسكو من تغطية الطلب في السوق بأسعار أفضل من ذي قبل، ولكنه من ناحية أخرى، سيزيد من مخاطر تمكن روسيا من قطع الغاز عن تلك الدول دون أن تتأذى صادراتها إلى الأسواق الأكبر في غرب أوروبا، وخصوصاً ألمانيا.
الاعتراض الإيطالي
اتهمت روما البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية بـ"ازدواجية المعايير"، بعد أن مارس الاتحاد، عام 2014، ضغوطاً لإيقاف المشروع الإيطالي الروسي "ساوث ستريم" - "South Stream" - لنقل الغاز من البحر الأسود مروراً ببلغاريا واليونان، وصولاً إلى إيطاليا، بحجة تأثيره السلبي على الملف الأوكراني لصالح موسكو، في حين لم يتخذ الاتحاد ذات الموقف تجاه المشروع الألماني.
وقد قامت روسيا بالفعل بالانسحاب من المشروع بعد توقف أعمال الإنشاء من الجانب الأوروبي، وحمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب مسؤولية انهيار المشروع، وذلك أثناء زيارته لتركيا في 1 كانون أول/ديسمبر 2014، معلناً إطلاق مباحثات حول خط بديل يمر بتركيا.
بالرغم من أن الشركاء الإيطاليين في مشروع الخط الجنوبي لم يتضرروا مالياً بقدر تضرر غازبروم الروسية جراء توقيف المشروع، إلا أن مستقبل إيطاليا كمحطة للطاقة في حوض المتوسط، وما يعني ذلك بالنسبة لها اقتصادياً وسياسياً، قد أصبح على المحك، مع العلم بأن أغلب واردات روما من الغاز الروسي، الذي تعتبر ثاني أكبر مستورد له في أوروبا، تمر بالخط الأوكراني المزمع إيقافه لحساب الخط الألماني.
يكمن البعد الاقتصادي في المشروع الألماني في تعزيز موقع ألمانيا في التحكم بأسعار الطاقة في القارة الأوروبية، واستخدامها كورقة ضغط على دول الاتحاد، حيث ينتهي الخط الروسي الألماني على السواحل الألمانية، بينما تتولى ألمانيا توزيعه من خلال شبكتها الخاصة التي تشغلها شركات ألمانية، أما الخط الأوكراني فقد كان يمتد في أوروبا وصولاً إلى عدد من نقاط التجميع أهمها إيطاليا، التي كانت توزعه بعد ذلك على دول أوروبية أخرى عبر شركات إيطالية، أو على شكل طاقة كهربائية.
سياسياً، يهدد التقارب الألماني الروسي موقع إيطاليا في الاتحاد الأوروبي، فبعد تمكن برلين من الاستحواذ على مؤسسات صنع القرار الرئيسية في الاتحاد، ها هي تسعى لسحب بطاقة التمثيل الخارجي من روما، التي تمثلها حالياً وزيرة الخارجية الإيطالية السابقة، فيديريكا موغيريني، التي استحقتها، بالدرجة الأولى، لتمتع روما بعلاقات تاريخية، سياسية واقتصادية، مع موسكو، وامتلاكها أوراق ضغط على روسيا.
تعتبر إيطاليا خامس أكبر شريك تجاري للعملاق الروسي، حيث تصدر روسيا لإيطاليا 15% من نفطها و30% من غازها، بينما تعمل 500 شركة إيطالية في روسيا في مختلف المجالات الصناعية والخدماتية، إضافةً إلى عدم وجود أي تاريخ لأي شكل من أشكال الصراع بين إيطاليا وروسيا، الأمر الذي منح روما موقع تمثيل الاتحاد الأوروبي في أي محادثات مع روسيا، الأمر الذي جعلها تتقدم على برلين في مجال صياغة السياسات الخارجية للاتحاد لسنوات.
وإلى جانب الغاز الروسي، كانت إيطاليا تشكل محطة لتوزيع الغاز والطاقة في أوروبا وحوض المتوسط من مصادر أخرى، أهمها ليبيا، حيث مثل النفط والغاز الليبيين 20% و10%، على الترتيب، من واردات إيطاليا منهما، الأمر اضطرب بعد تفجر الثورة في ليبيا عام 2011، وازداد تعقيداً بعد تحولها إلى مركز انطلاق مئات آلاف اللاجئين نحو الشواطئ الإيطالية.
وستزيد الأزمة الليبية وأزمات الشرق الأوسط من كلفة موارد الطاقة المستوردة منها، في مقابل انخفاض أسعار الغاز الروسي بفضل "نورد ستريم 2"، الأمر الذي سيعزز من اعتمادية قطاع الطاقة الإيطالي على الغاز الروسي، وستمكن ألمانيا من بيع كهرباء بأسعار منافسة في السوق الأوروبية، وسيجعل من أي استثمار سياسي أوروبي في سبيل حل مشكلة ليبيا واللاجئين والشرق الأوسط عموماً، غير مجدٍ اقتصادياً، وبالتالي تتعمق الاعتمادية على روسيا لعدم وجود مصادر بديلة، خصوصاً بالنسبة لإيطاليا ودول وسط أوروبا.
منذ قدوم حكومة رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، إلى السلطة، فبراير/شباط 2014، وضعت ثلاثة ملفات رئيسية أمامها تجاه الاتحاد الأوروبي، هي مواجهة سياسات التقشف، والدفع نحو سياسة أوروبية تشاركية حيال أزمة اللاجئين، والسعي نحو موقع أكثر تقدماً في قيادة السياسات الخارجية للاتحاد، وهي مساع يبدو بأنها اسطدمت، جميعاً، بتوجهات برلين، التي تقول الدراسة بأنها تستخدم "نورد ستريم 2" لتحجيم الدور الإيطالي في الملفات الثلاث.
حلول وخيارات روما
يبدو بأن الحكومة الإيطالية قد استنفرت جميع الحلول المتاحة لديها، السياسية والاقتصادية، القريبة الأمد والبعيدة، سواءً لإيجاد مصادر أخرى لموارد الطاقة أو لعرقلة المشروع الألماني، أو حتى الحصول على حصة فيه. حيث ذكرت صحيفة روسية مملوكة من قبل "غازبروم" الروسية، بأن شركة SAIPEM الإيطالية العملاقة، هي أكبر المرشحين للفوز بعطاء إنشاء جزء من مشروع "نورد ستريم 2"، باستثمار يبلغ 4 مليار دولار، الأمر الذي قلل خبراء إيطاليون من شأن عوائده.
تسعى روما في الوقت ذاته للضغط من أجل إيقاف المشروع داخل أروقة الاتحاد، أو مقايضة الموافقة عليه بالموافقة على إتمام مشروع الخط الجنوبي South Stream، إلى جانب السعي نحو الغاز الأذري كبديل، وعقد اتفاق مع كل من أذربيجان وتركيا واليونان، لإنشاء خط يخترق جنوب القوقاز والأناضول وجنوب البلقان، بالتوازي مع تشجيعها كلاً من روسيا وتركيا على الوصول إلى صيغة نهائية لبدء العمل بخط الأناضول الذي سيضخ الغاز الروسي بالتجاه البلقان انتهاءً بإيطاليا.
كما تسعى إيطاليا بقوة للعب دور في حل الأزمة الليبية، بالرغم من تعقيدها، وفرض نفسها شريكاً في أعمال التنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط مع جميع الدول المعنية، وهي مصر وإسرائيل ولبنان وقبرص وتركيا، ولعب دور لتحقيق توافق بينها حول تقاسم تلك الموارد.
وبالرغم من جميع الحلول التي تعمل عليها إيطاليا، فإن موسكو، بحسب دراسة "بروكنغز"، ستبقى الشريك الأكبر لها حتى بعد عام 2020، أي لدى بدء تشغيل "نورد ستريم 2" بطاقته الكاملة، وهو الأمر الذي يفرض على روما البقاء في فلك التحالف مع كل من برلين وموسكو، وتجنب الإضرار بعلاقتها معهما.
وجهة نظر برلين
ترفض برلين المقارنة الإيطالية بين مشروعها ومشروع الخط الجنوبي، حيث تتذرع بأن الأنابيب الروسية ستنتهي عند موانئها، ، الذي تقول برلين بأنه ما من بديل لديها عنه، خصوصاً في ظل عملها على تطبيق رؤية أوروبية حيال استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء، حيث تعمل على تقليص اعتمادها عليها تدريجياً.
يضاف إلى ذلك، محدودية الكميات التي يمكن لألمانيا استيرادها من روسيا حالياً، الأمر الذي سيجعل من الصعب تزويد أوكرانيا وبولندا باحتياجاتها من الغاز في حال ارتفاع الطلب في ألمانيا ودول غرب أوروبا، حيث تقول برلين بأنها قدمت ضمانات لأوكرانيا ودول وسط أوروبا الأخرى، المهددة بتوقف إمدادات الغاز الروسي، وتعهدت بالمحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية.
وبحسب الدراسة، فإن ألمانيا ترى بأن الإيطاليين يستخدمون أوكرانيا كورقة ضغط، حيث وقفوا ضد العقوبات التي اقترحتها ألمانيا بحق روسيا في أعقاب الأزمة الأوكرانية، وبأن الألمان يعبؤون بخطر التوغل الروسي في القارة الأوروبية أكثر من غيرهم.
وتخلص الدراسة إلى أن الطرفين يستخدمان الغاز والطاقة كأوراق قوة داخل دائرة الاتحاد الأوروبي، بعيداً عن حسابات الأرباح والخسائر الاقتصادية، أو التجاذبات السياسية مع روسيا، فبالنسبة لإيطاليا، هي أوراق مصيرية لموقعها الاستراتيجي، أما بالنسبة لألمانيا فهي أوراق ضمان لحفظ حالة الاتحاد في أوروبا، ولتعزيز سيطرتها عليه كذلك.
يبدو جلياً بأن موسكو هي المستفيد الأكبر من الحالة الراهنة، ومن أبعادها الإقليمية والدولية، وتداعياتها السياسية والاقتصادية، الأمر الذي قد تسعى لاستثماره جيداً في الفترة القادمة، وربما تعمل على إطالة أمده، كما ستكون له انعكاسات متفاوتة، إيجاباً وسلباً، على دول أخرى، تشكل مصادر أو أسواق أو طرق تصدير للطاقة ومواردها.
التعليق