دراسة متخصصة: العملة السورية، واقعها وآفاقها، نتائج وتوصيات
- بواسطة أحمد إسماعيل الراغب - اقتصاد --
- 31 تموز 2016 --
- 0 تعليقات
لقد كثر الحديث عن العملة السورية، فمن قائل بانهيارها، وقائل بقدرتها على البقاء، وقائل بتخبّط السياسة النقدية السورية، وقائل برشادها.. وأكثر ما قيل لا يستند إلى أرضية علمية؛ فأكثره ناتج عن حصائد التواصل الاجتماعي وإعلام النظام السوري..
لذلك سأستعرض في هذه الدراسة المختصرة الأمور الآتية:
أولاً ـ العملة قبل قيام الثورة السورية.
ثانياً ـ الواقع الاقتصادي أثناء الثورة السورية.
ثالثاً ـ حركة سعر الصرف أثناء الثورة السورية.
رابعاً ـ النتائج والتوصيات.
ولنبدأ بالمقصود:
أولاً ـ العملة قبل قيام الثورة السورية:
قبل قيام الثورة السورية كان سعر صرف الليرة السورية يعادل (45) ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، وكانت الحكومة السورية قادرة على المحافظة على سعر الصرف رغم العجز في ميزان مدفوعاتها، كونها تملك احتياطيات مقبولة من الذهب والعملات الصعبة، فقد أشار صندوق النقد الدولي إلى أنّ احتياطي سوريا من النقد الأجنبي كان يعادل (20) مليار دولار قبل قيام الثورة السورية.
وكان سعر الصرف مقبولاً قياساً إلى معدلات التنمية الاقتصادية والفجوة التضخمية في سوريا، وذلك رغم الفساد الاقتصادي المركّب.
ثانياً ـ الواقع الاقتصادي أثناء الثورة السورية:
ومن آذار عام 2011 م حتى حزيران 2016 م يمكن أن نلحظ التغيرات الاقتصادية الآتية:
1 ـ تدهور قيمة العملة السورية من (45) إلى (625) ليرة مقابل الدولار الواحد، وذلك قبل التدخل الأخير الذي استعاد جزءاً من قيمتها.
2 ـ تدهور القطاع الصناعي في سوريا: فحلب التي تعتبر المركز الصناعي الأوّل في سوريا، لم يبق عاملاً من منشآتها سوى 2% على الأكثر، والباقي إما قد خربته الحرب أو تمّ نقل المصانع إلى الخارج، وما يقال عن حلب يقال عن دمشق وحمص وحماه وإدلب ودرعا وباقي المحافظات السورية باستثناء الساحل السوري.
3 ـ تدهور القطاع الزراعي: لقد تأثرت جميع المحاصيل السورية، بالتالي لم يبق في سوريا محاصيل استراتيجية كالقمح والقطن والشمندر السكري.
4 ـ تدهور القطاع التجاري: القطاع التجاري هو انعكاس للقطاعين الصناعي والزراعي؛ لذلك ازدادت الحركة التجارية تجاه الواردات، وازداد الغنى عند كبار التجار على حساب باقي القطاعات.
5 ـ تدهور قطاع النفط: فقد أصبح النفط بيد تنظيم الدولة والتنظيمات الكردية، ولم يبق للنظام أكثر من عشرة آلاف برميل يومياً من أصل (400) ألف برميل قبل قيام الثورة السورية.
6 ـ تدهور الوضع السياحي في سوريا.
7 ـ تدهور باقي قطاعات الخدمات كالتعليم والصحة والكهرباء والنقل الجوي والبحري والبري.
8 ـ ضعف قدرة النظام في الحصول على القطع الأجنبي، بسبب توقف مصادر الحصول على القطع الأجنبي كضعف الصادرات وتدهور قطاع السياحة.
9 ـ التضخم المستمر لنفقات النظام بسبب الحرب على الأراضي السورية.
10 ـ وقوع الاقتصاد السوري في حالة مخيفة من التضخم النقدي.
إذن، من خلال ما ذكرنا نجد أنّ الاقتصاد السوري قد وقع في مشكلات بنيوية أو هيكلية تجعل من أي اقتصاد يصاب بها يكون في حكم الاقتصاد المشلول؛ لذلك أصبح من الطبيعي أن تجد ميزان المدفوعات السوري يعاني من عجز كبير.
ثالثاً ـ حركة سعر الصرف أثناء الثورة السورية:
والآن لابدّ أن يقول قائل: كيف واجهت حكومة النظام من خلال سياستها النقدية هذا الاختلال البنيوي في اقتصادها؟!
الحقيقة واجهت هذا الاختلال بالطرق الآتية:
الطريقة الأولى ـ التوسع في عرض النقود: لقد قامت حكومة النظام خلال الثورة السورية وذلك من أجل تغطية نفقاتها الكبيرة بإصدارات نقدية كبيرة، وهذه الإصدارات النقدية جعلت قيمة العملة السورية في انخفاض مستمر.
فمعلوم أنّه كلما زاد عرض النقود انخفضت قيمتها، وترتفع الأسعار وبالتالي يزداد التضخم.
ومن المعلوم أّنّ الانتاج في سوريا ضعيف جداً، بالتالي لا زيادة في الإنتاج تقابل الزيادة في عرض النقود؛ بل بالعكس هناك فجوة بين الإنتاج والطلب، فهذا يعني أنّه من دون زيادة عرض العملة ستزيد الأسعار، فكيف وقد زاد عرض النقود؟!، فبذلك وقع السوريون بين مشكلتين:
أ ـ زيادة عرض النقود التي تسبب ارتفاع الأسعار.
ب ـ ضعف الإنتاج الذي يزيد في الأسعار.
فبالتالي وقعنا في مشكلة اقتصادية كبيرة، لكنّ الحكومة غير مكترثة بمصير شعبها، فهمّها الأساسي هو تأمين موارد مالية لجعل عجلة الحرب مستمرة، وهم بالتأكيد يُدركون خطورة زيادة عرض النقود في حالة عجز ميزان المدفوعات؛ بل يعلمون يقيناً أنّ السياسة الاقتصادية الرشيدة هي تقليص عرض النقود في حال عجز ميزان المدفوعات.
ومعلوم أنّ انخفاض قيمة العملة السورية كان بشكل تدريجي خلال السنوات الماضية، وكانت تتحكّم به حكومة النظام من خلال تدّخلات المصرف المركزي في الأسواق، فكلما انخفضت قيمة العملة يضخ الدولار في السوق فتتحسّن الليرة قليلاً، ثم تنخفض بعد فترة فيضخ ثمّ ترتفع قليلاً، وهكذا يفعل بشكل متكرر، لكن دوماً من حيث النتيجة يميل سعر الليرة إلى الانخفاض أكثر من السابق، فالتدخّل يخفف مستوى الانخفاض ليس أكثر.
لكن عندما وصل سعر صرف الليرة السورية إلى (625) مقابل الدولار الواحد خشيت حكومة النظام من الانهيار التام بقيمة العملة السورية، فقامت بإجراء مؤقت كي تمنع الانهيار، فما هو هذا الاجراء؟!
الإجراء هو: سحب كمية كبيرة من العملة السورية من التداول عن طريق إلزام شركات الصرافة ومكاتب الصرافة بشراء ملايين الدولارات، والسماح للمصارف وشركات الصرافة بالبيع المباشر للدولار من دون عمولات، ويقوم مصرف سوريا المركزي باستلام العملة السورية وحجزها عن التداول، وترافق مع هذا الإجراء حملة إعلامية قوية جداً، مما أحدث ارتباكاً في الأسواق أثّر على السوريين سلباً، فبدأ ينخفض سعر الدولار وتنتعش العملة السورية، فهَلَعُ السوريين هو الذي أكسب هذه الخطوة قوتها، وليس البراعة الاقتصادية في فكرة سحب العملة السورية من التداول!
وعندما ينزل الدولار إلى مستوى معين سيقوم المصرف المركزي بشراء الدولار، لتعود العملة إلى الانخفاض من جديد.
فالمصرف المركزي يتبع القاعدة التالية:
عند انهيار العملة السورية يقوم ببيع العملة الصعبة مقابل العملة السورية، وعندما تتحسّن قيمة العملة الوطنية يقوم بشراء العملة الصعبة.
وهذه السياسة تتعارض مع أهداف السياسة النقدية الرشيدة في حال عجز ميزان المدفوعات، فسياسة المصرف المركزي السوري الحالية تؤدي إلى المشاكل الآتية:
أ ـ الاضطراب النقدي: لأنّ هذه السياسة تقود بالنتيجة إلى مزيد من انخفاض قيمة العملة السورية، وهذا يعني زيادة في ارتفاع الأسعار، وبالتالي مزيد من التضخم، وهذا يقود إلى توزيع الدخل الوطني والثروة لصالح المدينين والمنظمين ورجال الأعمال على حساب الدائنين وأصحاب الدخول الثابتة.
ب ـ زيادة البطالة: فانخفاض قيمة العملة السورية يقود إلى ضعف القدرة الشرائية للمستهلكين وبالتالي ضعف الطلب مما يقود في ضعف الاستثمار، وهذا يقود بدوره إلى زيادة البطالة.
ج ـ زيادة الخلل بميزان المدفوعات: فكلما زاد عرض النقود زاد الخلل في ميزان المدفوعات الذي يعاني بالأصل من عجز شديد.
د ـ التأثير السلبي على النمو الاقتصادي: لأنّ عرض النقود أكبر من معدّل النمو الاقتصادي في سوريا.
ه ـ استنزاف الاحتياطي من العملة الصعبة: لأنّ المصرف المركزي مضطر للتدخل الدائم لمنع انهيار العملة السورية.
و ـ يسيئ اقتصادياً للعلاقة مع الخارج: فاستقرار سعر الصرف هو الذي يُحسّن العلاقة الاقتصادية مع الخارج؛ لذلك تسعى بعض الدول إلى ربط عملتها الوطنية بعدّة عملات قابلة للتحويل.
الطريقة الثانية ـ القروض الأجنبية: بسبب ضعف الموارد المالية والنقدية للنظام السوري فكان لابدّ له من الاعتماد على القروض الأجنبية من روسيا وإيران وغيرها من الدول، وتستخدم هذه القروض من أجل تحقيق الأهداف التالية:
ـ تمويل المستوردات.
ـ المساهمة بتغطية عجز ميزان المدفوعات.
ـ تعديل سعر الصرف عن طريق طرح الدولار في السوق المحلية.
والآن يأتي سؤال هام: إلى متى تبقى حكومة النظام قادرة على دعم العملة الوطنية ومنعها من الانهيار الكامل؟!
نقول: تبقى قادرة على ذلك ما دامت قادرة على تأمين القطع الأجنبي.
والقطع الأجنبي يأتي إلى النظام من المصادر الآتية:
1 ـ من القروض الأجنبية.
2 ـ من الصادرات السورية: وهي ضعيفة جداً.
3 ـ من السياحة: وهي ضعيفة جداً.
4 ـ من تهريب العملة الصعبة من المناطق المحررة إلى مناطق النظام: وهذه الكميات لا يوجد إحصائيات دقيقة في شأنها، لكن من خلال الاستقراء وجدنا أنّ معظم العملة الصعبة التي تأتي المناطق المحررة تحوّل أو تهرّب إلى مناطق النظام، وهي بملايين الدولارات شهرياً، وتشكّل أكبر مورد للنظام من العملة الصعبة!
وحسب مصادر صندوق النقد الدولي كان يملك النظام السوري (20) مليار دولار كاحتياطي قبل اندلاع الثورة، وبلغت في نيسان 2016 للميلاد (700) مليون دولار، لكنّ النظام كذّب ذلك، لكن على كلّ الأحوال الاحتياطي عند النظام أصبح قليلاً، لكنّه مازال يعوّض جزءاً منه بشكل دائم من المصادر التي أشرنا إليها.
رابعاً ـ النتائج والتوصيات:
أولاً ـ النتائج:
نستنج من العرض السابق الأمور الآتية:
1 ـ النظام الاقتصادي في سوريا يعاني من مشاكل بنيوية أو هيكلية تضرب صميم حركته، ويحتاج التعافي من هذه المشاكل سنين طويلة بعد نهاية الثورة السورية.
2 ـ الوسيلة الجوهرية عند النظام لتعديل سعر صرف الليرة السورية هو التدخل في السوق النقدي عن طريق بيع العملة الصعبة أو شراؤها وذلك حسب مستوى تدهور سعر صرف الليرة السورية، أما الوسائل النقدية الأخرى فغير مجدية بسبب بنية الاقتصاد السوري الضعيف.
3 ـ لا يمكن للنظام السوري السيطرة على سعر صرف الليرة السورية، فالخط العام القادم هو مزيد في انخفاض قيمة العملة السورية، والذي يحكم السيطرة على سعر الصرف هو مقدار ما يملك من احتياطي العملة الصعبة، وما يملكه هو قليل.
4 ـ أغلب العملة الصعبة التي تدخل المناطق المحررة تتحول بطرق مشروعة وغير مشروعة إلى مناطق النظام السوري، مما يساعده على الحصول على العملة الصعبة التي تعتبر شريان سياسته النقدية.
5 ـ الدول الخارجية الصديقة للنظام السوري كإيران وروسيا هي داعم اقتصادي كبير للنظام السوري، ولولا القروض والمساعدات الكبيرة من العملة الصعبة لأشرفت العملة السورية على الانهيار خلال الفترة الماضية.
6 ـ لا يمكن لحكومة النظام أن تحل مشكلة الارتفاع العام في مستوى الأسعار؛ بسبب زيادة عرض النقود الذي قامت وتقوم به، وبسبب الفجوة بين الانتاج والاستهلاك.
7 ـ حلول النظام الاقتصادية هي حلول مؤقتة لا تعالج بنية الاقتصاد؛ لأنّ النظام ظنّ أنّ عمر الثورة قصير، لكنّ سوريا دخلت اقتصاد الحرب، وسيطول الزمن، ولن يستطيع النظام بسياسته النقدية الحالية أن يحلّ المشاكل الاقتصادية، فهي بالنتيجة إطالة لعمر المريض ليس أكثر!.
ثانياً ـ التوصيات:
1 ـ حرمان النظام من العملة الصعبة التي تأتيه من المناطق المحررة، وذلك بوسائل مباشرة كمنع تهريب العملة، أو بوسائل غير مباشرة كاستبدال تعامل الليرة السورية في المناطق المحررة بعملة أخرى.
2 ـ على المواطنين أن يحتفظوا بالعملة الصعبة، ولا ينخدعوا بتحسّن سعر صرف الليرة السورية؛ لأنّه تحسّن مؤقت سرعان ما يعود إلى التدهور من جديد.
3 ـ ألا ينخدع الناس بالترويج الاعلامي حول قدرة البنك المركزي على التدخّل لإنقاذ الليرة السورية، فالقضية فوق طاقة المصرف المركزي في الظروف الحالية.
التعليق