كيف انحرف مصرف سورية المركزي عن دوره الجوهري؟

لا يمكن أن يجادل أحد طويلاً في حقيقة أن ما تعرضت له سوريا هو حالة سياسية وأمنية استثنائية في وقائعها وامتدادها الزمني، وبصورة لابد أن تُنتج وتتوازى مع الكثير من المشكلات بل المخاطر الاقتصادية، وعلى رأسها مشكلة التضخم المتسارع أو المفرط، والذي شكل ويشكل معاناة مستدامة للمواطنين السوريين جميعهم، نتيجة الانخفاض في القوة الشرائية لليرة، القوة التي غدت لصيقة بسعر الصرف مقابل الدولار كحالة توأم سيامي.

هذه التوأمة السيامية، أين كان منها مصرف سورية المركزي؟، وأين كان هذا "المركزي" من مشكلة التضخم المطردة تلك، والتي يقع حلها على مسؤوليته الاقتصادية والقانونية أيضاً؟!

من المعروف أن أسباب التضخم الجامح في سوريا توزعت بين أسباب عديدة، أهمها ما أدت إليه الأحداث من ضرب الهياكل الإنتاجية الأساسية للاقتصاد السوري، وبالتالي تخفيض القدرات التصديرية إلى مستويات محبطة، كما جرى بالتحديد في (حلب) وهي العاصمة الاقتصادية للبلاد، وكذلك ما نتج من آثار عن العقوبات الاقتصادية الغربية التي فُرضت بشكل متصاعد الحدة، إضافة –بالطبع- إلى ما نتج عن السياسة التي انتهجها النظام فيما يتعلق باعتماده المفرط وغير المسؤول على مقدرات الدولة في تمويل الحرب التي يشنها على معارضيه وشعبه.

وإذا كانت بديهية اقتصادية أن يكون دور المصرف المركزي في الدولة وعلى مستوى الاقتصاد الكلي لها هو (الحفاظ على المستوى العام للأسعار)، فإن المتتبع للطريقة التي تدخل بها هذا "المركزي" في الحياة الاقتصادية عبر السنوات الخمسة الماضية يستشعر بشيء من الغرابة حيال هذه البديهية، وربما يسعى إلى التأكد من صحتها، بطرق مختلفة.
 
فالوعي الاقتصادي للمواطن السوري أصبح يربط بصورة تلقائية بين المصرف المركزي وحاكمه (أديب ميالة) وبين سعر صرف الدولار، وليس شيئاً آخر.

فاحتكارية مصدر الدولار التي تمسك بها المصرف المركزي بطريقة لا تخلو من الحبكة الدرامية، أمام زيادة مستمرة للطلب عليه، عن الوارد منه إلى خزائن الدولة، أدى إلى الانخفاض الكبير في قيمة الليرة السورية، دون أن يشرع المصرف المركزي مع الوزارات المختصة بأي حلول علاجية فعالة لإنقاذ ما تبقى من القدرة الشرائية للمواطن السوري عبر الطرق التدخلية المشروعة للدولة في زمن الحروب، كإجراءات متشددة في مواجهة الفساد وغسيل الأموال، وترشيد الإصدار النقدي، وربط أسعار الفائدة على الليرة السورية بمعدل مرتبط مع قيمتها الحقيقية على أساس سنة سابقة للأحداث، ودعم السلع الأساسية ومنع الاحتكارات والوكالات الحصرية الخاصة بتلك السلع.

ولكن لما كانت تلك الإجراءات وغيرها ستنعكس على المواطنين والدولة بالإيجاب، على حساب الفئة الحاكمة والموالية فإنه كان يجب إشغال الجميع بالمعارك الوهمية التي خيضت من قبل حاكم المصرف المركزي بحجة حماية الليرة ومستخدماً شتى الوسائل لـ"دولرة" الوعي الاقتصادي السوري، مبتعداً به عن حقيقة ما كان يجب أن يلعبه مصرف سورية المركزي في مواجهة التضخم ومعالجة آثار الارتفاعات الكبيرة في المستوى العام للأسعار.

هذا الحاكم الذي يريد أن يُشعر محيطه الضيق والواسع، بأنه في حالة "انتعاش" بعد الانتصار الوهمي الذي يريد من الجميع أن يقتنعوا به في مواجهة انحدار الليرة، وذلك على طريقة الانتصارات الوهمية التي كانت تحققها أطراف محور المقاومة التي يخدم في إحدى دولها، الانتصارات التي تكون تكاليفها أكبر بكثير مما تحققه، ولكن يسمى انتصاراً لأن التكاليف يدفعها الشعب وليس الحاكم وأسياده.

أما عن تكاليف انتصار (ميالة) حاكم "المركزي"، فيمكن بسهولة التعرف عليها من دراسة تغيرات المستوى العام للأسعار لسلة سلعية من عشرة مواد أساسية يقتات منها المواطن السوري، لنعرف جميعاً كم انحرف مصرف سورية المركزي في أداء دوره الجوهري المنوط به في كل الأدبيات الأكاديمية الاقتصادية والأعراف القانونية الناظمة لحياة الدول.

ترك تعليق

التعليق