حينما يتجمع كل جحيم الحصار في حفنة ملح

يعتقد البعض أن تداعيات الحصار في أي مدينة أطبق عليها هذا الوحش اللعين، تقتصر فقط على الميل الشديد إلى الطعام، وما يرافقه من أمراض جسدية وضغوط وآلام في نفسية المحاصر.

و لكن.. ما يخفى على الناس التشعبات الكبيرة للجوع والتي تنمو كالفطريات السامة مخلفة هنا وهناك آثاراً وأخاديد في المجتمع المحاصر، لا يمكن للأيام أن تمحوها سريعاً.

إضافة لكل ماسبق من تداعيات.. تبرز المشكلات والخلافات الأسرية والزوجية كإحدى أهم النقاط التي ينبغي تسليط الضوء عليها، لا سيما إذا أتت من سبب واحد، هو تلكم الظاهرة الاقتصادية المتوحشة، والتي تدعى الحصار.

هذا التحقيق، يتحدث عن هذه النقطة بالذات، ويفتح ملف الخلافات الأسرية المنبثقة من رحم الحصار!

 التبغ، دمر حياتهما

"كانت الحياة قبل الحصار رائعة جداً، كلما عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام أشعر بالظلم الفظيع من حياتنا التي نعيشها اليوم، ذكرى تلك الأيام الماضية والمنقرضة لا تبارحني حتى في الأحلام"، قال جابر (30 عاماً)، ممهداً للحديث عن حياة أسرته في الماضي.

"لا أريد أن أكذب إن ادعيت أننا كنا نعيش حياة الملوك أو أنه لم تكن بيننا خلافات أو مشكلات أو ما شابه، لكن بالمقارنة مع معيشتنا الحالية أستطيع أن أؤكد؛ أننا كنا نحيا في جنة، لم نشعر بها حتى ولت بعيداً".

ويتحدث جابر عن مشكلته محاولاً إخفاء الألم الذي يسببه التفكير أو الحديث عنها، "أنت تعرف أن الحرب في كثير من مناطق سوريا أدت إلى محاصرة هذه المناطق بالكامل، ومنع الطعام والشراب وكل أسباب الحياة، ومن هنا.. بل من نقص التبغ بدأت الحكاية".

ويمضي جابر في حديثه قائلاً: "لي شقيق يجاوز من العمر العشرين بقليل وقد اعتاد على التدخين منذ الصغر، وفي جو الحصار ترتفع أسعار التبغ حتى تصل اللفافة الواحدة إلى خمسمائة ليرة وفي بعض الأحيان كانت اللفافة تباع بألف و أكثر، وهكذا كان أخي يفتعل المشكلات مع والدي ليحصل على النقود لشراء التبغ، كان أبي يغضب في بعض الأحيان بسبب سلوك شقيقي السيء بالفعل، ولكن أمي كانت تقف إلى جوار أخي وتعطيه النقود، ويوماً بعد يوم بدأ الخلاف يتحول تدريجياً إلى أبي وأمي".

ويقول جابر: "صارا يتجادلان كثيراً، وتعلو أصواتهما يومياً، ومعظم هذه الخلافات كانت بسبب أخي وإدمانه على التبغ، وفي النهاية انفصلا حيث سكن أبي في بيت آخر وبقيت أمي وأخي وشقيقاتي في البيت نفسه، وهكذا انقطعت العلاقة حتى هذه اللحظة بسبب التبغ!".

 الجوع ولد شجاراً دائماً

تروي ريم قصة والديها الذين يختلقان أتفه الأسباب للشجار والمشاكسة.

وتقول ريم (16 عاماً): "السبب في الواقع ليس من والدتي، بل أبي يتحمل معظم المسؤولية في هذه الخلافات، إنه لا يتوانى عن رفع صوته والصراخ بأمي كلما شعر بالجوع أو التعب من الحصار، أقل كلمة تجعله يفقد أعصابه ويصرخ، وأي مناقشة مع إخوتي الشباب تجعله يتميز غضباً، فيشتم ويسب ويرفع صوته بالصياح".

وتقول ريم إن الجيران شعروا أكثر من مرة بهذه المشاجرات وفي بعض الأحيان تدخلوا بين الزوجين ليحلوا الخلاف، لكن دون جدوى، "فأبي قد يهدأ الآن وقد يصالح أمي، ولكن الجوع مايزال جاثماً، وسوف يحين موعد العشاء ولن يجد سوى الحساء الكريه الذي لا يتعدى حفنة من الرز والبرغل مع كثير من الماء".

وتؤكد ريم حدوث قصص كثيرة من هذا القبيل سمعتها من جاراتها، مشيرة إلى أن الخلاف بين والديها قد يؤدي أحياناً إلى المقاطعة التي تصل إلى عشرة أيام كاملة في معظم الأحيان.

 سبب غريب ومفاجئ

التبغ والجوع وغير ذلك من ظروف الحصار قد تشكل أسباباً وجيهة للخلافات والمشكلات بين الزوحين.

لكن القصة التالية تفاجئ الجميع إذا عرفوا أن خلافاً جرى لبضعة أيام بين زوجين حديثي العهد بالزواج كان وراءه كمية قليلة جداً من الملح!

حدث هذا في المدينة (م).

وحتى يتسنى للقراء معرفة الظروف الحالية، نبين أن هذه المدينة محاصرة منذ نهاية العام 2015 حتى اللحظة.

ويشتد الحصار والجوع ونقص وغلاء التبغ يوماً بعد يوم، إضافة لنفاد جميع ما يمكن أن ندعوه بمقومات الحياة حيث لا غذاء ولا دواء، في ظل غياب للمحروقات والحطب والسكر.

وانقطعت المواد من المدينة بدءاً من الطعام حتى أصغر المقومات كالقداحات وملح الطعام.

يروي محمد قصته قائلاً: "ذات يوم أتاني أحد الأصدقاء ليطلب مني شيئاً من ملح الطعام، فقد كان هذا الجار  اشترى كمية من القمح ونظفها ثم هرسها ليجعل منها الأكلة المعروفة بالقمحية، ولكن زوجته بحثت في أواني المؤونة فلم تجد ذرة ملح واحدة".

ويتابع محمد: "وبعد الأخذ والرد استطاع صاحبي أن يأخذ حفنة الملح البسيطة القابعة على رف المطبخ، وذلك بوعد مثير وهو إعطائي زبدية كبيرة من القمحية بعد طهوها".

ويمضي محمد في حديثه: "وهكذا نفذ صديقي وعده، لكن ذهبت اللذة وبقي الندم، فعندما جاءت زوجتي أرادت طبخ شيء من الرز، وضعت السمن وحمصت الرز ثم أضافت الماء، وفتحت الخزانة لترش الملح على الطعام فلم تجد شيئاً، وهكذا علمت أنني خربت الطبخة بساعة كرم حاتمي، وهنا بدأت المشاجرة التي انتهت بقطيعة ليومين امتنعت خلالها زوجتي عن التحدث معي".

ويعلق محمد على هذه القصة قائلاً: "لا أعتقد أن السبب هو الملح فقط، بل هو الحصار بجميع عذاباته، ماذنب هذه المسكينة أن تعيش هذه الحياة القاسية إلى حد لا يوصف و قد زفت قبل أشهر عروساً إلى بيتها التي نسجت صورته في أحلامها، كأبهى وأحلى عش للزوجية، ثم تحول هذا العش مع اشتداد الحصار إلى جحيم لا يوصف".

ويختم محمد بالقول: "كل شيء هنا يسبب الضغط النفسي، من الطعام القليل جداً، والنقص في كل مقومات الحياة، إلى الطبخ على القماش ذي الرائحة الكريهة، وأخيراً إذا حالفك التوفيق واستطعت الحصول على وجبة للعشاء فلن تجد شيئاً تملحها به، لقد تجمع كل جحيم الحصار عند زوجتي في حفنة الملح، ويا لها من حفنة!".

ترك تعليق

التعليق