تحت وطأة الحصار وفقدان التبغ في الريف الدمشقي.. أحدهم يترقب "المهدي" هذه السنة

في شهر آذار، وفي إحدى بلدات ريف دمشق، تناقل الناس قصة مفادها أن كهلاً من الأهالي أصيب بمرض عقلي قاده إلى الانفصال عن زوجه وتدمير حياته بالكامل.

وروى الناس قصة هذا الرجل بكل أسى، لقد انتهت العلاقة الزوجية التي دامت خمساً وعشرين سنة نهاية تراجيدية مبكية، ومن غير شك سيؤدي مرض "الذهان" الذي أصيب به أبو ربيع إلى الجنون، كما يقول الأطباء.

المرض الذي أصاب أبو ربيع جعله يتخيل أشياء لم تحدث معتقداً أنها كانت ماضياً أليماً لا شك فيه على الإطلاق.

زوجته تخونه، تضع له السم في الطعام، وأقاربه تآمروا عليه، فلان قتل فلاناً، و"علي أن أحمل مسدساً لأطلق النار على كل من دمر حياتي وظلمني، إذا مت وسال دمي سوف تسيح دماؤكم".. كل هذه القائمة شكلت عبارات الهلوسة التي كان الرجل يتخيلها ويطلقها بكل ثقة ظاناً أنه يتذكر شيئاً حدث في الماضي لا أمراً مُختلقاً مصطنعاً فقط..

وعند سؤالنا لاختصاصيين في الطب وعلم النفس تبين معنا أن السبب الرئيسي كان هو الحصار المريع الذي أكل الأخضر واليابس وجعل الناس تفقد عقولها أو تصاب بأمراض تؤثر على العقل.

هذه الحادثة مهدت لنا الطريق لدراسة آثار الحصار السلبية على النفس والمجتمع ضمن قصص مشابهة أو متسقة معها وأحاديث صحفية عميقة أدت لإجراء هذا التحقيق ذي الأجزاء الخمسة..

"اقتصاد"، إذ يفتح ملف الحصار كظاهرة اقتصادية متوحشة، فإنه يهدف من ذلك إلى تسليط الضوء على آثاره السلبية، ومدى تغلغلها في المجتمعات التي ترزح تحت الحصار في مدن الريف الدمشقي.

هل هو الجنون؟

"أنا أعرف أخي جيداً، كان ذكياً جداً ورائعاً، إلى درجة كبيرة، إنه مثقف وخريج أحد المعاهد المتخصصة وقد عمل قبل الثورة في مطار دمشق الدولي، لم يكن أحد من زملائه يشتكي منه، بل كلهم كانوا يحترمونه ويقدرونه"، يقول سامر متحدثاً عن إحدى الحالات التي تدهورت نتيجة الحصار.

ويُمضي سامر في حديثه الشيق حول أخيه الأكبر: "عندما جاءت الحرب بمُنجزاتها وصواريخها القاتلة بقيت أنا وأخي في مدينة ( ... )، أنا حملت السلاح، أما أخي فلم يكن يحب ذلك، وبعد عدة أشهر نفد طعام المدينة التي حُوصرت بكل عناية من قبل قوات النظام وهنا بالضبط بدأت مأساة أخي".

ويروي سامر الذي ما يزال يعيش في نفس المدينة، أن ظروف الحصار القاسية ساهمت بشكل جدي في تشكل هذه المأساة.

ويضيف: "ارتفعت أسعار المواد بشكل جنوني وعلى الأخص التبغ، الذي تجاوز العشرة آلاف ليرة للعلبة الواحدة، بينما بِيع السكر بسعر مماثل، أما المواد الأخرى كالبرغل والرز والحُمص، فقد سجلت 5 آلاف ليرة، وأخي يُعتبر مدخناً شرهاً، ونتيجة لتوقفه عن التدخين بسبب السعر الهستيري للسجائر كان يجوع بشدة، وأنت تعلم أن التدخين يُشعر المرء بالشبع لكن انعدام السجائر أدى لشعور الرجل بالجوع الشديد".

وبدأت الشرارة الأولى عندما تشاجر (ع) مع زوجته شجاراً عنيفاً أدى إلى طلاقها في نهاية دقائق المخاصمة الزوجية.

ويقول سامر: "هنا شعرت أن أخي أصبح على غير ما يرام، ساءت حالته وأصبح كمن صُدم صدمة عنيفة، نظراته صارت شاردة وفكره وعقله وتركيزه كله توجه نحو أمر واحد هو لفافة التبغ، هذه اللفافة اللعينة التي منعها النظام ليدمرنا بها، وبعد ذلك لم يعد يتكلم إلا نادراً، كان يتحدث بصوت غير مفهوم، والآن إذا جئت إلى مدينتنا، بإمكانك أن تلمح شاباً لا يتجاوز الثلاثين عاماً، مُهمل الزي والهندام، مشعث الشعر، يحمل في يده علبة صغيرة ويدور من بيت إلى بيت ويقول لكل من يصادفه في الشارع العبارة  التالية "بدي سيجارة"!!".

 حديث الهلوسة

نتيجة لتدمير منزله في المدينة (س)، نزح أبو عمار (52 عاماً) إلى المدينة (ع).

وفي الأخيرة عاش أبو عمار أجواء مشابهة للتي قضاها في مدينته الأصلية، لقد كانت كلتا المدينتين تشتركان في نقطة واحدة، هي الحصار.

ومنذ وقت بعيد، لمح جيران الرجل تغيرات في عقلية أبي عمار، وفي تفكيره، قادهم إلى الشك في قواه العقلية.

ويروي أحد الجيران أن أبا عمار صار يتحدث كثيراً عن الجن والسحر والشعوذة، إضافة لذلك صار يشكك في الناس من هذا الباب.

ويضيف عبد الرحمن الذي اطلع ملياً على حالة الرجل: "كل شخص لا يعجب أبا عمار يتهمه الأخير بالسحر والشعوذة، أحاديث طويلة فاقت الساعتين في بعض الأحيان كان الرجل لا يتحدث خلالها إلا حول هذه المواضيع، إنك ستتعرف من نظراته الحائرة وهدوئه الرتيب وكلامه الشاذ، على شيء غير طبيعي في الرجل".

ولم يُعرض أبو عمار على أحد المختصين النفسيين، الأمر الذي لم يسمح لنا بتوصيف حالته، لكن معظم من يعرف الرجل يتهمه بأنه فقد القدرة على التفكير المنطقي بعيداً عن الأوهام والخزعبلات.

يعيش تامر بالقرب من بيت أبي عمار حيث يسهر معه يومياً بالقرب من بيته ويتبادلان شتى الأحاديث عن "الثورة والدمار والبيوت المهدمة والجوع والجن والسحر"، كما يقول تامر.

ويضيف: "في إحدى الليالي رأيت أبا عمار في حالة غريبة، كان مزهواً بنفسه وبقدراته على كشف الحقائق والغيب، قال لي بالحرف الواحد وابتسامة الرضا تلوح من بين شفتيه: في عام 2016 سيخرج المهدي المنتظر.. أنا أنتظره بفارغ الصبر وسيسحق كل هذه الحثالة التي دمرتنا ودمرت حياتنا!!".

ويُعلق تامر قائلاً: "لقد جُن الرجل حقاً".

 وما أدراك ما الذهان؟

نعود إلى القصة الأصلية التي بدأنا بها التحقيق، حيث عانى أبو ربيع طوال سنتين من آلام الحصار والجوع ونقص التبغ والفراغ القاتل، "ويوماً بعد يوم كان أبو ربيع يتخيل أحداثاً مختلقة وقصصاً غريبة يرويها بكل ثقة كأنها حدثت حقاً"، يقول مصطفى أحد أقرباء الرجل.

ويضيف مصطفى: "منذ الشهر الماضي أصبح أبو ربيع عدوانياً للغاية، فقد ضرب زوجته ضرباً مبرحاً وصار يتوعد كل أقاربه حتى أنا، بالقتل والانتقام، بحجة أننا تآمرنا عليه، ويذكر قصصاً حول هذا الموضوع".

وعُرض أبو ربيع على أخصائي نفساني، الذي أكد أنه مصاب بنوع من الأمراض العقلية، يُعرف بـ "الذهان"، في وقت انعدمت فيه جميع إمكانيات العلاج من هذه الحالة المستعصية.

تقول أم ربيع خلال حديثها عن معاناتها مع زوجها المريض: "كنت أصبر عليه كثيراً، وأستمع إليه وهو يروي قصصه المختلقة، لكن منذ شهر انفصلنا بسبب عدوانيته الزائدة، لقد كنت سأموت بسببه لو لم يبادر أحد الجيران لتخليصي من بين يديه".

وتضيف أم ربيع: "زوجي كان مدمناً على التدخين إلى حد الشراهة، ونتيجة للارتفاع الباهظ في أسعار التبغ كان يتعرض لشتى أنواع الضغوط النفسية بسبب عدم قدرته على شراء الدخان".

وتؤكد أم ربيع أنها لن ترجع إلى حياتها الزوجية معتبرة أن هذا الأمر "مستحيل".

رأي الخبراء

الأخصائي في علم النفس (ن . ع) قال إنه عاين حالات عديدة أصيبت بأمراض عقلية تنوعت بين الذهان وفصام الشخصية والهذاء أو "البارانويا".

وأرجع (ن . ع) السبب في معظم هذه الحالات إلى الضغط الناجم عن مخلفات الحصار وأجوائه الرهيبة.

وقال متحدثاً عن هذا الموضوع: "بإمكان المرء تخيل مدى فظاعة الجوع وعدم توفر الخبز على المائدة يومياً وكأس الشاي الذي بات حلماً لمعظم الناس، والتبغ الذي ارتفعت أسعاره ارتفاعاً غير معقول، أضف إلى ذلك أن المحاصر يعيش في معتقل حيث تصبح المدينة سجناً كبيراً للناس".
وحول أهم الأمراض التي تحدث نتيجة الحصار قال (ن . ع): "الذهان مثلاً مرض عقلي يرتبط بتلف جزئي أو كلي في الجهاز العصبي ووظائفه، حيث ينفصل المريض عن الواقع كلياً، أما فصام الشخصية فهو مرض حاد يؤدي لانشطار وعدم انتظام الشخصية وتدهورها التدريجي وبالتالي يؤدي إلى التشتت والتناثر واضطراب في التفكير والوجدان والسلوك وأحياناً الإدراك".

وعن إمكانية العلاج في الظروف الراهنة، أكد الخبير النفسي عدم توفر العلاج المناسب والأدوية اللازمة بسبب ظروف الحصار في المناطق التي تنتشر فيها هذه الأمراض.

وأضاف: "كيف يمكننا علاج هؤلاء ما داموا يرزحون تحت الحصار، من شروط العلاج تغيير بيئة المريض وخضوعه لاختبارات العيادة الإكلينيكية، ودراسة حالته لتشخيصها ومن ثم المباشرة بعلاجها".


ترك تعليق

التعليق