في درعا.. مهن جديدة تُخلق من وحي الظروف

تسببت الحرب التي تستعر منذ خمس سنوات على معظم الأراضي السورية، ومنها محافظة درعا الجنوبية،  بظهور مهن جديدة لم تكن معروفة سابقاً فرضتها الظروف الصعبة التي ولدتها الحرب، لتصبح مصدراً للرزق تؤمن الكثير من متطلبات الحياة لبعض المواطنين، وذلك تزامناً مع  توقف دورة الحياة والإنتاج وانتشار البطالة بين الشباب والرجال، الذين اضطروا لسبب أو لآخر إلى ترك أعمالهم تحت ضغوط الظروف الأمنية، التي تسود معظم مناطق سوريا.

ويشير الخمسيني أبو فادي، وهو موظف سابق في شركة كهرباء درعا، إلى أنه "ترك عمله بسبب المضايقات الأمنية على الحواجز، التي قطّع بها النظام أوصال المناطق، ليمتهن وأسرته جمع وبيع الحطب، الذي يحصل عليه من الأحراش والأودية، كمصدر رزق للتغلب على صعوبات الحياة"، كما يقول.
 
ويضيف أبو فادي، "على الرغم من أن مهنة جمع الحطب مهنة قديمة ظهرت في كثير من المجتمعات البشرية، إلا أنها انقرضت في سوريا منذ عشرات السنين، لكنها عادت في السنوات الماضية بسبب متطلبات الحياة الجديدة وغياب المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها نتيجة الحصار الذي يفرضه النظام على بعض المناطق"، لافتاً إلى أنه يبدأ نهاره يومياً بالذهاب إلى أحد الأودية القريبة من قريته، ويقوم بقطع الأشجار المختلفة وينقلها بواسطة الحيوانات التي يربيها لهذه الغاية أو يحملها مع أفراد أسرته إلى منزله، ويتم هناك بيعها للراغبين.

واستطرد أبو فادي بأن عمله متعب جداً، ولكنه مربح أيضاً، حيث يبيع الطن من بعض أنواع الحطب بنحو 50 ألف ليرة سورية.

ولفت أبو فادي إلى أن "أسعار الحطب تتفاوت من نوع إلى آخر، وذلك حسب نوعية الأشجار المحتطبة، وشدة الاشتعال، وطول فترته، فمثلاً أردأ الأنواع /الدفلة، نوع من الأشجار ينمو في مسيلات الأودية/، سريع الاشتعال، ولكنه لا يدوم طويلاً، فيبلغ سعر الطن منه نحو 15 ألف ليرة سورية، و/الكينا/ نحو 25 ألف ليرة سورية، و/الزيتون/ نحو 33 ألف ليرة سورية، ولكن أغلاها /الملول/ وهو شجر قاسي الخشب ينمو في الأودية ويصل سعر الطن منه إلى 50 ألف ليرة سورية، وهو الأكثر ربحاً لأنه يدوم طويلاً في الاشتعال، ويشهد رغم ارتفاع سعره، إقبالاً من قبل الناس الذين  يمتلكون المال".

أما أبو عصام 48 عاماً، وهو معلم مدرسة سابق، توقف عن عمله وفصل من وظيفته بعد اعتقاله واتهامه بالارتباط مع الجماعات المسلحة، فيقول "لم يعد لدي عمل، ومع ظهور بوابير الكاز والمازوت، امتهنت التجارة وتصليح هذه الأنواع من الأدوات المستخدمة في الطهي والتدفئة، وبعدها تصليح المدافئ، حيث أحصل على دخل مقبول نوعاً ما، وهو إلى جانب محل تجاري  أملكه مؤجر لأحد المستثمرين بنحو 15 ألف ليرة سورية، يؤمن بعضاً من احتياجاتي الضرورية، حيث يصل دخلي إلى نحو 35 ألف ليرة سورية شهرياً، وهذا المبلغ يغطي بعض احتياجات الأسرة، فلدي أسرة مكونة من سبعة أشخاص وكلهن فتيات، لم أرزق بذكر ولا معيل غيري، والحمد لله".

وأردف أبو عصام، "كانت وظيفتي تؤمن معظم احتياجاتي قبل الثورة، صحيح أنني كنت أستدين لأكمل الشهر، ولكن كانت الأمور أريح والأسعار أرخص وكل شيء متوفر تقريباً، لكن الآن تحتاج الأسرة إلى خمسة أضعاف ما كانت تنفق قبل الثورة بسبب هبوط قيمة الليرة السورية وارتفاع الأسعار وارتباطها بالدولار".

ويقول سالم، وهو سائق وصاحب حافلة لنقل الركاب بين دمشق وريف درعا، "كانت المسافة بين ريف درعا ودمشق والتي تقدر بنحو 150 كيلو متراً، تُقطع بساعتين، ولكن الآن وبسبب الحواجز والطوابير الطويلة ومزاجية ضباط حواجز النظام، نمضي النهار كاملاً، وأحياناً لا نستطيع العودة بنفس اليوم، لذلك أضطر لاستئجار سائق لقيادة الحافلة بين درعا ودمشق بمقابل 3500 ليرة  سورية للنقلة الواحدة، والكثير من أصحاب الحافلات يفعل ذلك وهذه مهنة جديدة أفرزتها الحرب وطول المسافة، وهي لم تكن موجودة  سابقاً، فأنا كنت أنقل ثلاث نقلات يومياً بين درعا ودمشق وقبل المغرب أكون بين أطفالي".

وقال نزار 42 عاماً، "نعم أعمل سائقاً مستأجراً، وأنقل يومياً نقلة واحدة بين دمشق وإحدى قرى ريف درعا الغربي، أتقاضى لقاء ذلك نحو 3500 ليرة سورية، وأقوم بذلك بمعدل عشر مرات، أو أكثر شهرياً، بحسب الظروف الأمنية"، لافتاً إلى أن هذا المبلغ ضروري جداً له، لأنه لا دخل آخر لديه.

وأضاف "صحيح أن الطريق محفوفة بالمخاطر، لكن تأمين رغيف الخبز يحتاج إلى مغامرات، واللقمة أصبحت ممزوجة بالخوف والدم، فكيف نؤمن لقمة أسرنا إذا لم نغامر؟".

وتزامناً مع الثورة والحرب المشتعلة ظهرت مهنة جديدة وهي مهنة إصلاح وترميم الأسلحة الخفيفة.

يقول فايز 35 عاماً، "كنت أعمل في محل للخراطة والتسوية قبل الثورة، ومع توقف أعمالنا نتيجة القصف وعدم وجود زبائن، تحولت إلى إصلاح وترميم بعض قطع السلاح الخفيفة كالبنادق الآلية والمسدسات، وإضافة إلى ذلك، نقوم أنا وشريكي في المحل، بشراء كل ما يتوفر من الأجزاء التي تدخل في تركيب قطع السلاح، من تجار الخردة، وهي عادة من مخلفات المعارك والغنائم من القطع العسكرية، التابعة لقوات نظام بشار الأسد، ونعيد تركيبها وتجميعها من جديد، وتصبح قابلة للاستعمال"، لافتاً إلى أن سعر البندقية أو المسدس الذي يتم تجميعه يكون عادة أقل من السعر الحقيقي للقطعة الأساسية.

وأضاف أن "عمله جيد، ومدر للدخل، لأن الطلب على السلاح متوفر، والأعطال التي تصيب السلاح كثيرة"، مشيراً إلى أنه وشريكه، وبرأسمال تجاوز الألفي دولار بقليل، قاما أيضاً بفتح محل لعرض وبيع السلاح، وبيع بعض الأزياء والملابس العسكرية، ومن خلاله استطاعا تحسين وضع أسرتيهما المادي والتغلب على مصاعب الحياة، حسب وصفه.

تلك هي مهن فرضت نفسها خلال الحرب بقوة الحاجة، منها ما كان معروفاً سابقاً وغاب وأعيد إحضاره من جديد، ومنها ما أفرزته الظروف السائدة، والهدف دائماً إثبات الذات بالعمل، وتحصيل الرزق، ولو كان ذلك محفوفاً بالمخاطر، فصرخة طفل جائع أشد فتكاً وألماً من أية مخاطر أخرى، هكذا هي بعض جوانب حياة السوريين، الذين أرهقتهم الحرب ولازالت تفتك بهم مع مرور كل لحظة.

ترك تعليق

التعليق