لماذا لن يكون الاقتصاد وسيلة الرد الروسي على تركيا؟


حجم العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا يصل إلى أكثر من 44 مليار دولار.

السياحة والغاز والمحطة النووية.. أبرز تهديدات روسيا الاقتصادية لتركيا.

تصريح لأردوغان يؤكد أن تركيا درست تداعيات إسقاط الطائرة الروسية مسبقاً.

من المرجح أن ترد روسيا ميدانياً في مناطق التركمان وعبر دعم فصيل كردي مناوئ لتركيا.

حزب العدالة والتنمية التركي يُشتهر بفصل براغماتي بين السياسة والاقتصاد.

لو قررت روسيا اللعب بالورقة الاقتصادية سيكون الإيلام متبادل وعلى المدى البعيد ستكون روسيا المتضرر الأكبر.




فيما لوحت روسيا بالانتقام من تركيا اقتصادياً، يرى مراقبون أن موسكو لن تخاطر بالاقتصاد، وأنها ستجد سبلاً أخرى للرد على الأتراك، غير تهديد علاقات اقتصادية تقارب قيمتها 44 مليار دولار.

وفيما تُشتهر حكومة أنقرة الحالية بالفصل بين السياسة والاقتصاد في توجهاتها الخارجية، يبدو أن الروس يدرسون خياراتهم جيداً، وتصريحات مسؤوليهم تُوحي بأن الورقة الاقتصادية مطروحة على طاولة خياراتهم في الرد.

حجم علاقات نوعي

تعتبر العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا نوعية بكل المقاييس، فقيمة التبادل التجاري للبضائع يتجاوز الـ 30 مليار دولار سنوياً، يضاف إليها استثمارات متبادلة متراكمة بأكثر من ملياري دولار.

وتعد تركيا أكبر خامس شريك تجاري لروسيا بحصة تبلغ 4.6% من إجمالي التجارة الخارجية الروسية، وذلك بحسب بيانات إدارة الجمارك الروسية للفترة ما بين كانون الثاني وأيلول من العام الحالي، وتأتي تركيا في هذا المركز بعد الصين، وألمانيا، وهولندا، وإيطاليا.

وحسب وكالات، بلغ التبادل التجاري بين موسكو وأنقرة في العام الماضي 31 مليار دولار، ووصل إلى 18.1 مليار دولار للأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، منها 15 مليار دولار هي صادرات روسيا إلى تركيا التي تشكل واردات الطاقة حصة الأسد فيها، حيث تقوم روسيا بتلبية أكثر من نصف احتياجات الغاز في تركيا.  

وبعد الأخذ بعين الاعتبار "تجارة الخدمات" فإن مؤشر التبادل التجاري الكلي (بضائع وخدمات) بلغ في عام 2014 ما يقارب 44 مليار دولار.

وخلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا قبل شهرين، أكد خلالها أن أنقرة وموسكو يسعيان إلى زيادة حجم التبادل التجاري بينهما بحلول عام 2023 إلى 100 مليار دولار، ولم يظهر هذا الهدف على أنه مبالغ به خاصة بعدما قدمت أنقرة نفسها كشريك اقتصادي واعد، وذلك بعد رفضها الانضمام إلى الدول الغربية التي فرضت عقوبات ضد روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية.   

وعلى صعيد السياحة، بلغ عدد السياح الروس الذين قصدوا تركيا بهدف السياحة في عام 2014 نحو 4.38 مليون شخص، وذلك من أصل 42 مليون سائح، أدخلوا ما يقارب 36 مليار دولار إلى الاقتصاد التركي.

ويأتي السياح الروس بالنسبة لتركيا في المرتبة الثانية بعد ألمانيا التي صدرت نحو 5.4 مليون سائح العام الماضي.

وتتشارك تركيا مع روسيا في إنشاء محطة نووية "أك كويو"، وهي أول محطة نووية في تركيا، تتضمن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات.

كما عقدت كل من روسيا وتركيا منذ أشهر اتفاق "مشروع السيل التركي"، الهادف لنقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا حيث من المتوقع أن تبلغ القدرة التمريرية نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، الأمر الذي سيعزز مساعي تركيا في التحول إلى مركز إقليمي لتوزيع الطاقة.

تلويح روسي بالورقة الاقتصادية

ومنذ الساعات الأولى التي تلت حادث إسقاط الطائرة الروسية، لوّح الروس بإجراءات عقابية اقتصادية ضد تركيا، بدأت مباشرة بتوصية من جانب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمواطنيه، بعدم السفر إلى تركيا.

وعقب ذلك، صدرت توصيات عن اتحاد السياحة الروسية بعدم السفر لتركيا، الأمر الذي دفع كبرى شركات السياحة الروسية إلى وقف بيع الرحلات السياحية إلى تركيا.

بعيد ذلك، أعلن رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف، أن إسقاط تركيا للطائرة الروسية قد يؤدي إلى إلغاء بعض المشروعات المشتركة المهمة بين البلدين، منوهاً إلى أن الشركات التركية قد تخسر حصتها في السوق الروسية.

ومن ثم، قال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، إن روسيا ستنظر بشكل دقيق في جميع المشاريع المشتركة مع تركيا، بما فيها مشروع محطة "أك كويو"، أول مشروع محطة نووية في تركيا، الذي يتضمن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات.

ويرى محللون اقتصاديون أن إسقاط الطائرة الروسية يجعل مصير مشروع نقل الغاز الروسي إلى تركيا "السيل التركي" مجهولاً.

استعداد تركي للتداعيات

تركيا من جانبها، لم تتخذ أية إجراءات اقتصادية، أو تلوح بأي منها، لكن كان من اللافت أن تركيا درست، على ما يبدو، احتمالات الضرر الاقتصادي، قبل إسقاط الطائرة الروسية، فالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كان قد صرح بعد حادثة الاختراق الأولى لطائرة روسية للأجواء التركية، أن تركيا بإمكانها أن تحصل على الغاز الطبيعي من أماكن أخرى غير روسيا، وأن دولاً أخرى يمكن أن تبني محطة "أك كويو" النووية، إن لم يشيدها الروس.

فهل تطيح أزمة إسقاط الطائرة الروسية بعلاقات بحجم 44 مليار دولار؟

من غير الواضح بعد إن كانت روسيا سترد بورقة الاقتصاد، وباستثناء ورقة السياح الروس، التي لا بد ستضر بالسياحة في تركيا، لم تقم روسيا حتى الآن بأي إجراء عملي، عدا التهديد.

ويرجح مراقبون أن ترد روسيا على إسقاط طائرتها بأساليب غير مباشرة، ميدانية وسياسية، من قبيل تكثيف حملاتها الجوية على مناطق تمركز التركمان بالساحل السوري، الذين يرتبطون عرقياً بتركيا، وهو ما باشرت موسكو بفعله منذ اليوم الثاني الذي تلا إسقاط الطائرة. كما رأى مراقبون أن روسيا قد تفعّل أكثر ورقة التعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في شمال سوريا، وهو الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تركيا أكبر تهديد أمني ينال من استقرارها.

أما على الصعيد الاقتصادي، فمن المستبعد، في وجهة نظر معظم المحللين، أن تُطيح روسيا بمصالحها الاقتصادية المتبادلة مع تركيا. وهنا نشير إلى أن روسيا في ذروة أزمتها مع الغرب في أوكرانيا، لم تقطع الغاز بصورة نهائية عن حكومة كييف المناوئة لها، وإن كانت قطعته عدة مرات على سبيل التهديد والابتزاز، لكنها عاودت في كل مرة ضخ الغاز لكامل الأراضي الأوكرانية.

براغماتية تركيا

تركيا بدورها، دون شك، ليست بصدد أي إجراء عقابي اقتصادي حيال روسيا، فحكومة العدالة والتنمية تُشتهر بفصل براغماتي كامل، بين الاقتصاد والسياسة، لطالما أثار الجدل والتساؤلات، ففي حين تتصارع تركيا وإيران في سوريا، بصورة غير مباشرة، تعتمل بينهما علاقات اقتصادية بحجم 14 مليار دولار، وكانت تركيا خلال فترة العقوبات الغربية على إيران، المتنفس المالي لطهران.

الأمر ذاته فعلته تركيا خلال الأزمة الأوكرانية، فرغم موقفها السياسي الصريح المُناوئ لاحتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وتدخلها العسكري المباشر في الأزمة الأوكرانية، إلا أنها لم تشارك في العقوبات الغربية على روسيا، بل على العكس، في ذروة تأزم الضغط الغربي الاقتصادي على موسكو، تقدمت أنقرة كشريك اقتصادي وتجاري ومالي واعد للعاصمة الروسية.

ماذا لو قررت روسيا التضحية بالاقتصاد؟

لكن في حال قررت روسيا التضحية بالاقتصاد، يبدو أن الأتراك مستعدين لذلك، ويُوحي تصريح أردوغان الذي تناول هذا الجانب، قبل حادثة إسقاط الطائرة الروسية، أن أنقرة درست جيداً التداعيات المحتملة لإسقاط أي طائرة تخترق مجالها الجوي، وهي مستعدة لهذه التداعيات.

بطبيعة الحال، لو قررت روسيا اللعب بالورقة الاقتصادية، فإن أضراراً ملحوظة ستنال من الاقتصاد التركي، لكن هذه الأضرار ستكون عملياً، متبادلة.

فعلى صعيد السياحة، يقدر نسبة السياح الروس من مجمل السياحة الأجنبية في تركيا 10% تقريباً، بمعنى أن الضرر بلغة الأرقام قد يرقى إلى حوالي 3.5 مليار دولار وسطياً، لكن بالمقابل، يبدو أن شركات السياحة الروسية بدورها ستتضرر أضراراً بالغة، فقد خسر السياح الروس الوجهتين المفضلتين لهما، تركيا ومصر، في غضون أسابيع معدودة فقط.

وبعد أن علّقت موسكو رحلات سياحها إلى مصر، إثر تفجير طائرتها شمال سيناء، وبعد تعليمات بوتين بالحد من سفر الرعايا الروس إلى تركيا أخيراً، ألغى معظم السياح الروس رحلاتهم بدلاً من اختيار وجهات سياحية أخرى، ذلك أن تركيا ومصر هما الوجهتين المفضلتين للروس، خاصة من الطبقة الوسطى، فيما يبدو أن الوجهات السياحية الأخرى، باهظة أكثر، وبعيدة.

وفي رد فعل على هذا الوضع قالت المتحدثة باسم الاتحاد الروسي لوكالات السفر ايرينا تيورينا مساء الثلاثاء، "يستحيل تصور القطاع السياحي الروسي بدون تركيا".

وسبق أن ذكرت مصادر روسية أن شركات ووكالات السفر الروسية تعرضت لأضرار جسيمة جراء توقف السياحة إلى مصر، لتتضاعف الأضرار الآن في حال استمرار توقف السياحة إلى تركيا، في وقت تنخفض القدرة الشرائية للمواطنين الروس بفعل تردي قيمة عملتهم تحت ضغط العقوبات الاقتصادية الغربية، الأمر الذي يدفع المزيد من السياح الروس إلى إلغاء رحلاتهم بدلاً من تغيير الوجهة السياحية.

أما على صعيد تجارة التجزئة والتبادل التجاري، يبدو أن روسيا ستكون الخاسر الأكبر، فالصادرات الروسية إلى تركيا تصل إلى 15 مليار دولار.

دون أن ننسى أن تركيا لم تنخرط في حملة العقوبات الغربية على روسيا، الأمر الذي يجعل تركيا متنفساً اقتصادياً وتجارياً وماليا ًمهماً لروسيا في الظروف الراهنة.

يُضاف إلى ذلك، أن تركيا تستورد أكثر من نصف حاجتها من الغاز من روسيا، وتراهن الأخيرة على شراكتها مع تركيا، في تمرير غازها إلى أوروبا، عبر الأراضي التركية، بصورة تتيح لها الاستغناء عن تمرير غازها عبر أوكرانيا، وسط التأزم الحاصل هناك.

والأخطر، في حال فكرت روسيا في الضغط على تركيا في ملف الغاز، أن تبحث الأخيرة عن بدائل، سواء على صعيد شراء الغاز، أو تمريره لأوروبا، وهنا يبدو البعد الإيراني، فإيران لطالما انتظرت فرصة أن تمرر غازها إلى أوروبا، وفي حال انهار مشروع "السيل التركي"، الذي تعتزم روسيا من خلاله تمرير الغاز عبر تركيا إلى أوروبا، يمكن للأتراك دراسة خيار تمرير الغاز الإيراني، كما يمكن لتركيا أن تشتري حاجاتها من الغاز من إيران أو الجزائر أو حتى قطر، الأمر الذي يعني لروسيا خسارة السوق التركية، والمعبر التركي لغازها.

الأمر ذاته ينطبق على مشروع المحطة النووية في تركيا، فروسيا راهنت في الفترة الأخيرة على التوسع في بناء المفاعلات النووية في بلدان العالم الثالث، ومنها مصر والأردن وإيران، وتركيا أيضاً. وإدخال السياسة في معترك هذه الصناعة سيضر بمشاريع روسيا للتوسع في هذا المجال، وقد يعيد تنشيط هذه الصناعة لدى دول غربية، بدلاً من روسيا، إذ لن تعدم تركيا بديلاً غربياً عن روسيا يكمل لها مشروع محطتها النووية.

الاقتصاد.. إيلام متبادل

في نهاية المطاف، يبدو أن الضرر الاقتصادي الذي قد يطال تركيا، من تردي العلاقات الاقتصادية مع موسكو، سيطال الأخيرة أيضاً، وربما بنفس الحجم، إن لم يكن أكثر، على المدى البعيد.

وهكذا، يبدو أن أنقرة درست جيداً خيارات الروس المحتملة، قبيل إسقاط الطائرة الروسية، ويبدو أن تقديرات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي أشار إلى أن عملية إسقاط الطائرة الروسية مدروسة مسبقاً، في محلها، ذلك أن الأتراك يدركون تماماً أن الخيارات الاقتصادية للرد لدى روسيا، مؤلمة للروس كما هي مؤلمة للأتراك، لتبقى خيارات الرد الميداني، التي ستكشف الأيام القادمة عن سيناريوهات أنقرة لمعالجتها.

ترك تعليق

التعليق